من موقع European Parliament
في مخيم فريدلاند للاجئين في وسط ألمانيا، ينتظر أبو عمر - كما أحبّ أن نعرّف عنه - منحه حق اللجوء، بعد أن أتى قبل عدة أشهرٍ هارباً من مدينة سقبا التي احتلتها قوّات الأسد في ريف دمشق، مارّاً بدولٍ عدّة، وصولاً بشكلٍ غير شرعيٍّ إلى الأراضي الألمانية. قد تكون القصة عاديةً لو لم يكن أبو عمر أحد الناجين القلائل من كارثة غرق السفينة الليبية على سواحل جزيرة لامبيدوزا في تشرين الأول أكتوبر 2013، والتي كانت تقلّ مهاجرين غير شرعيين، ليذهب ضحية هذه الحادثة أكثر من 350 مسافراً من السوريين والفلسطينيين. ولا تزال ذكريات اللحظات الأخيرة للكارثة المروّعة حاضرةً في ذاكرة أبو عمر ليرويها لـ"عين المدينة".
صعدنا إلى المركب المتهالك، أنا وابن عمي، محاولين إيجاد مكانٍ للجلوس وسط مئات النساء والأطفال والرجال، بعد أن دفعنا مبلغ 1200 دولارٍ عن كلّ شخصٍ للمهرّب الليبيّ ومعاونه السوريّ. تحرّك المركب في الساعة العاشرة ليلاً من زوارة الليبية. وبعد ساعتين جاء زورق خفر السواحل الليبية السريع ليطلب منا التوقف والعودة، بعد حفلة سبابٍ وشتائم وُجِّه معظمها إلى النساء الموجودات في المركب. رفضنا التوقف، فقامت القوّات بإطلاق النار بشكلٍ مباشرٍ على المركب، مما أدّى لجرح ثلاثة أشخاصٍ وسقوط شابٍّ من مدينة دوما في عرض البحر، لم نعرف مصيره حتى الآن، بالإضافة إلى إحداث ثقوبٍ في غرفة المحرك أغلقها مساعد "القبطان" التونسيّ بعصيٍّ خشبية، وأدار مضخات سحب المياه لتفريغها إلى الخارج.
وصلنا إلى المياه الإقليمية الإيطالية في حدود الرابعة صباحاً، متجهين إلى لامبيدوزا، تتقاذفنا أمواج البحر. بعد أربع ساعاتٍ تقريباً تعطلت مضخة المياه الأولى، لتبدأ المياه بالتجمّع في غرفة المحرك. يطلب "القبطان" من البعض الجلوس في الطرف المعاكس للمضخة التالفة لإحداث شيءٍ من التوازن، ونبدأ - نحن الشباب - بإفراغ المياه من غرفة المحرّك بواسطة أوعيةٍ بلاستيكية. يميل المركب بفعل الثقل نحو اليسار، وتبدأ الأمواج بضربه راميةً بأحمالها من المياه بين أحضاننا. يقول "القبطان" إننا لن نستطيع الوصول إلى لامبيدوزا، لذا سنتوجه إلى مالطا لأنها أقرب، ويغيّر اتجاهه. تعطلت المضخة الثانية في حدود الساعة الثالثة ظهراً، مفسحةً المجال للمياه بأن تغرقنا.
بدأ محرك السفينة بنفث الدخان الأسود من جرّاء وزن المياه الزائد ووزننا. يتصل أحدنا، وهو طبيبٌ من جسرين، عبر جهاز الثريا بالصليب الأحمر موجهاً نداء استغاثة. وصلت طائرةٌ لتراقب موتنا البطيء عن كثب، رامية زورقاً مطاطيّاً وبعض ستر النجاة. توقف المركب عن المضيّ إلى الأمام، وأخذ الركاب بالفرار من الجهة اليمنى إلى اليسرى وبالعكس، لتجنّب الأمواج الضارية. وبعد محاولة فاشلةٍ من "القبطان" للرجوع إلى الخلف، انقلب المركب.
نطقت بالشهادتين وأنا أحاول السباحة إلى سطح البحر لأستنشق الهواء لكن عبثاً، كانت أقدام الغارقين تدفعني إلى الأسفل. بدأ الأوكسجين يخف من رئتي لأسبح لا إرادياً مبتعداً عن مكاني. خرجت إلى السطح مزوّداً بآخر الأنفاس لأجد بحراً من الجثث. كيف ماتوا فوراً؟ لا يهمني. وجدت امرأةً مسنةً طافيةً على السطح وترتدي سترة نجاة. سبحت باتجاههــــا لأجدها ميتة. أخذت سترة نجاتها وإذ بطفلةٍ عالقةٍ في مقدمة المركب تستنجد. سبحت باتجاهها وحملتها على كتفي وهي تلهث وتقول: "عمو الله يخليك ما بدي موت". كنت مشغول الذهن بابن عمي فبدأت بالصراخ: يا أبو رعد.. يا أبو رعد.. لمحت من بعيد شاباً أعرفه من مدينة سقبا يغرق، فأعطيت الطفلة لشابٍ من مدينة السويداء، بعد أن تجمّع بعض الناجين في البقعة التي كنت فيها بستر نجاتهم. توجهت نحو الشاب وسحبته وإذ به يزبد فضربته على ظهره ليستفرغ، بالاستعانة بشابٍّ آخر كان يجلس قربي في السفينة. بدأ الغريق بالتقاط أنفاسه مجدّداً، بعد أن ساعده الآخرون وألبسوه بدلة نجاةٍ أخذوها من أحد الغرقى.
حلّ الظلام ونحن لا نزال في عرض البحر والطائرة لا تزال تحلق فوقنا، لتظهر أضواء سفينةٍ حربيةٍ كبيرةٍ وتحتها طرّاداتٌ سريعةٌ تتجه نحونا. بدأت بالسباحة نحو أحدها وصعدت إليه فوجدت الفتاة الصغيرة والشاب الذي كانت معه، لأعرف أنها ابنة أحد معارفي من مدينة سقبا أيضاً. علمت فيما بعد أنهم وصلوا إلى السويد بسلامٍ بعد أن فرّوا من مخيمات إيطاليا.
سحبوني إلى قلب السفينة الحربية الإيطالية وما زلت قلقاً على أبي رعد، لأعلم لاحقاً أنه ذهب بالسفينة الحربية المالطية إلى مالطا. أما أنا فقد توجهت إلى إيطاليا، بعد يومين من الإعياء أمضيتها مستلقياً على أحد أسرّة السفينة.
وصلنا إلى إيطاليا، ورأينا ما رأينا من سوء المعاملة، فقرّرت الفرار إلى ألمانيا وفعلت، بعد أن بقيت لعدة أيامٍ من دون أن يعطوني ملابس في "المخيم" الإيطاليّ، بعد أن فقدت كلّ شيءٍ في البحر.. كما في بلدي.
[highlight]وتعليقاً على كارثة لامبيدوزا قال المفوض السامي لشؤون اللاجئين أنتونيو غوتيريس:
"هناك أمرٌ غير إنســــانيٍّ أساساً في عالمٍ يضطرّ فيه السوريون إلى المقامرة بحياتهم بوضعها بأيدي مهربين قساةٍ من أجل محاولة بلوغ الأمان في أوروبا. لقد فرّوا من الرصاص والقنابل فقط ليغرقوا، حتى قبل أن يصبحوا قادرين على طلب اللجوء."[/highlight]
في الأسبوع الأخير من شباط الماضي طالبت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، البلدان حول العالم تقديم تعهداتٍ باستقبال 100 ألف لاجئٍ سوريٍّ بحلول العام 2016. وتتوقع المفوضية أن يصل عدد السوريين الذين تمّ توطينهم إلى 30 ألفاً خلال عام 2014. وتوجه هذه الطلبات نحو الدول الصناعية المتقدمة في الدرجة الأولى، وهي مطالباتٌ بأعدادٍ ضئيلةٍ إذا قورنت بأعداد النازحين السوريين إلى دول الجوار أو أعداد النازحين في الداخل. ولا يمكن أبداً لجميع هذه الجهود والمحاولات أن تنجح في وضع حدٍّ للمأساة السورية المتفاقمة يوماً وراء يوم ما لم يعاد التركيز على السبب الأساسيّ لهذه المأساة، وهو الحرب التي يشنها بشار الأسد وحلفاءه على الشعب السوري المنكوب.
وقال دان ماك نورتون، المتحدث باسم المفوضية، للصحفيين في جنيف: "نناشد المجتمع الدوليّ مواصلة توفير الحلول الطويلة الأجل للاجئين السوريين الذين لديهم احتياجاتٌ عاجلة".
وتقترح المفوضية تطبيق برامج موازيةٍ في آليات قبول اللاجئين، مثل تمكين السوريين المقيمين في دول العالم المختلفة من دعوة أقاربهم أو أفرادٍ من عائلاتهم للسفر إلى بلدان إقاماتهم، وتقديم منحٍ دراسيةٍ للطلاب السوريين، واستقبال الجرحى وذوي الأوضاع الصحيّة الخاصة.
"يجب أن يتخذ العالم إجراءً لإنقاذ جيل من الأطفال السوريين، الذين يتعرضون للصدمة والعزلة والمعاناة، من الكارثة. إن لم نتخذ إجراءات سريعة فسوف تستمر معاناة جيل من الأبرياء في حرب مروعة". *
بلــــغ عدد اللاجئيـــن السوريين المسجلين في المنطقة
2.4 مليون. ويوجد في لبنان ما يـقرب من 932,000 شخص، فيــــما يوجد في الأردن 574,000، إضافة إلى 613,000 في تركيا، و223,000 في العـــــراق، ونحــو 134,000 لاجئٍ في مصر.
* من تقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين