أصبح البلد كقالب "كاتو" متفسّخ، قطّعته سكاكين جزّارٍ ورث السلطة عن ديكتاتورٍ بغيضٍ، وهو يضحك ببلاهةٍ في كرنفال "كراكوزات" مجلس الشعب عام 2000.
يقول أحد الضباط القومجيين اليساريين (من جماعة الجماهير الكادحة): "لولا هذه الحواجز العسكرية لكان النظام في خبر كان". ربما أصاب هذا (القومجي) بهذا القول، على اعتبار أن الحواجز هي التي منعت أي حشدٍ (جماهيري كادح) من الصراخ بعد أربعة عقود من ارتداء الجماهير اللباس العسكري، الذي صبغ البلاد والعباد بلونه الزيتي الأجرد القميء، ابتداءً من مداجن المدرسة ومروراً بالخدمة العسكرية وانتهاءً بخيار حمل (الكلاشينكوف) أخيراً، لقتل قاتله من جنود الحواجز، عاشقي بشار الأسد، الذين يتلذّذون بإذلال "الجماهير" وهي تقف لأوقاتٍ طويلةٍ على الحاجز، مدجّجين بحقدٍ لم تفسّره "العقائد" حتى الآن.
جندي الحاجز بعثي (يميني) بالفطرة، فهو يعشق قائده بشار الذي تتآمر على نجاحاته الأمم، فلا حاجة له إلى دروس الحزب المعقدة، والتي تتطلب جانباً من ثقافة اليسار الكادح. هو قادرٌ على أن يكشف المتآمرين على القائد والوطن بنظرةٍ ثاقبةٍ على وجه "الكادح" الوديع، أو على أكياس "المعونات" أو "الإغاثة" بيديه. ويتأكد من صوابية توقعاته من خلال اسمه أو اسم عائلته على (الهوية) التي يقلّبها بين يديه وهو ينظر إلى الكادح بتفحّص المحقق البوليسي. فإذا اكتشف ملامح ارتباكٍ زاد من أسئلته حتى يتعرّق جبين الكادح (وين رايح؟ إممممم.. شو معك بالكيس؟ شو بيقربك فلان؟).. إلخ.
جندي الحاجز مثلنا تماماً، نحن البشر، لديه عائلة يشتاق إليها كثيراً، ولديه والد ووالدة ينتظرانه ويقلقان على غيابه في (الجبهة)، ويتضرعان مثل آبائنا وأمهاتنا إلى الله نفسه كي يحفظه من شر الأعداء، ويستمع إلى الأغنيات الدارجة وهو يراقب السيارات والحافلات العابرة أثناء نوبات حراسته لصناديق الذخيرة والمتاريس الرملية للحاجز. كما أنه يتفحّص أجهزة الموبايل المتطوّرة التي يصادرها رفاق السلاح، ليقلّب في الصور الخاصة في صندوق الصور لصاحبها (المعتقل أو الشهيد)، قبل أن يقيس قيمتها المادية من خلال وزنها أو لونها أو ميزاتها الفنية والتعبوية ليقدمها هدية لسيادة المقدم أو العقيد المسؤول عن الحاجز، وينال جائزة الإجازة أو المغادرة إلى قريته حاملاً بعض الهدايا لأهله من الغنائم التي صادرها خلال خدمة حراسته الوطنية.
وجندي الحاجز العسكري شاعرٌ، مثل السوريين جميعاً في عهد الأسد الأب. يكتب عن الوطن وقائده قصائد مسجوعةٍ بلا وزن، ويعتقد أنها الأجمل. كما أنه يجوع كالكادحين، ويأكل من المعلبات التي يوزعها قائد الأمة. كما أنه مثلنا تماماً، ينفعل ويغضب. إلا أن أكثر ما يغضبه هو رؤية عاشقين يشبكان أيديهما على الرصيف ويتبادلان الابتسام والحب دون أن يكترثا لأزيز الرصاص المنبعث من كل مكان، وتأهّب حرّاس الحواجز، وهروب القطط الشاردة تحت حاويات القمامة. فيبادر (ليس مثلنا هذه المرة) إلى كسر عزيمة العاشقين على الحياة بين الموت والدمار، ويستوقفهما بفوهة الروسية مهدداً، ويحقق مع الشاب العاشق بتسلسلٍ درامي مثير، يبدأ بطلب (هويته) ويمر بنظرات التفحّص ثم التفتيش عن (الفلاشة) التي قد تحمل أغنيات (القاشوش) و(الساروت). ثم تحوم غرائزه حول الفتاة الحالمة، فيُسحل الشاب العاشق ويبدأ الإذلال، لينتهي بالتوسّل والركوع، ويعاود حارس الحاجز مهمته الوطنية مكتفياً بالهدنة التي قبض ثمنها من محفظة العاشق.
للحواجز العسكرية ثقافة وطن، فهي القتال والارتياب والاشتياق والحب والملل. فجندي الحاجز، بعد أن يجمّع مشاهد فيديو من قتلهم بالسكاكين والرصاص وهو يوبّخهم على خروجهم من المنزل والانصياع لأوامر الإرهابيين أعداء القائد، ليبيعها لأحدهم؛ يعود ويقف ليحرس الحاجز ويتلذّذ مع رفاقه بمشاهدة مقاطعه منشورةً على اليوتيوب، ويمطّ ذراعيه ويتثاءب، ويشعر بالضجر.
مثلنا تماماً، مع بعض الفروق الصغيرة التي تكاد لا تذكر، ومنها، على سبيل المثال: توقنا إلى الحرية...