مقهى تاء مربوطة من الداخل
شارع الحمرا.. نقطة التلاقي الحميم للسوريين في بيروت
رامي عبود | بيروت
(إذا مضيّع سوري بتلاقيه بالحمرا)
إنها الجملة الأكثر شيوعاً بين اثنين، أحدهما يبحث عن شخصٍ عزيزٍ في بيروت، والآخر يظن نفسه خبيراً بمزاج الشعب السوري.
وفعلاً، فإن هذا الحيّ البيروتي الشهير مقصد كل سائح يأتي إلى لبنان. وإن كان السوري في أوضاعه الإنسانية الراهنة لا يصنّف بين السوّاح، لكنه عشق المكان وصار من أشد رموزه مرحاً وإيلاماً. فالحيّ الواصل بين وسط بيروت والبحر يعدّ عصباً حيوياً وسوقاً نشيطة تكثر فيها المكاتب التجارية ومحلات الألبسة والصرافة والمصارف والمطاعم والفنادق الراقية والاقتصادية والشقق المفروشة للإيجار. فما يحتاجه السوري الغريب يجده في متناول يديه، وليس بحاجة يومية للتجول خارجه، بغية التقنين في تكاليف سيارة الأجرة المرتفعة، ولئلا يقع تحت مساءلة عناصر حزب الله المتمركزين عند مداخل الضاحية الجنوبية وما يحيط بها. وهكذا شكّل شارع الحمرا شعوراً بالأمان لدى القادمين إلى بيروت بغية العمل، والهروب من بطش الأسد، والعبور إلى مكان آخر. ولقربه من الجامعة الأمريكية بات مكتظاً بالطلبة والشبان من الفئات العمرية الصاعدة الذين يبحثون دوماً عن مقهى يجتمعون فيه ليتبادلوا أطراف الحديث، فاستقبل الحي مزيداُ من شباب سوريا..
يقول محمد (لبناني/ صحفي): «تعرفت كثيراً، في الآونة الأخيرة، على عدد لا بأس به من السوريين. نسبة ساحقة منهم يعّرف نفسه على أنه ناشط. واستغربت، بصراحة، من هذا العدد الكبير من الناشطين خارج سوريا. فهناك من يقول إنه ناشط إعلامي وآخر في الصعيد الإغاثي. وهم في النهاية شباب متحمس فقدوا توازنهم في بلادهم وجاءوا يعوّضون الأمر في بيروت».. وبالفعل، فإن أكثر ما ينشط به هؤلاء هو وجودهم في مقهى تاء مربوطة الذي يقدّم خدمة الإنترنت بشكل مجاني، مما يساعدهم على التواصل مع أهلهم وأصدقائهم في سوريا، ويسمح لهم بتنظيم وقفات تضامنية مع الشعب المظلوم، كمسيرة الشموع في ساحة الشهداء إثر مجزرة الكيماوي الأخيرة في الغوطة الشرقية. كما لا ننسى أنّ المقهى ذاته يغلب عليه الطابع الثقافي، كوجود مكتبة على جدرانه، وإعلانات عن فعاليات فنية متعددة، ووجود صالة قراءة في الطابق العلوي. ويتسنى لمرتاديه تناول الوجبات الغذائية المتنوعة والمشروبات الكحولية وغيرها بأسعار رخيصة نسبياً. وبعد ساعات من التلاقي بالأصحاب وكتابة البوستات على الفيسبوك في هذا المقر، يقوم الناشط السوري بجولة في شارع الحمرا. يمرّ بشاعر كان يكتب في صحف النظام الرثة، يراه قابعاً عند أحد السلالم يتسول من سوري لآخر ثمن كأسٍ من العرق اللبناني. فلا يأسف لوضعه مثلما يأسف لتشرد العديد من أطفال سوريا بين هنا وهناك، يبيعون الأزهار والسجائر. يشتري فطيرة من الجبن من مطعم بربر ويمنحها لسيدة سورية بان على وجهها الإعياء، فإذ به يصل إلى المقر الثاني، حانة مزيان. وهناك يلتقي بأصحاب النفس اليساري المتأزم من مراهقين فلسطينيين ولبنانيين، وسوريين يدّعون التخرج من معتقلات النظام القمعية. فيشربون نخبهم على أنغام الشيخ إمام وسميح شقير والرحابنة. ويحتدّ النقاش بينهم إزاء مسؤوليتهم عما يجري في سوريا. فترى أحدهم يضع اللائمة على الثورة التي غيّرت مسارها السلمي ورضيت بالجهاد مخرجاً، وآخر يجلد نفسه قائلاً: «لو لم نغادر سوريا لما وجدت جهاديين من جنسيات مختلفة يقاتلون بجانب الجيش السوري الحرّ». إلى أن يتدخل عازف عودٍ رديء ليعيدهم إلى واقعهم، إذ لا قدرة لهم على سماع صوت انفجار فكيف بخوض حرب. حينئذ ينضمّ الجميع إلى جوقة الفرح، بمن فيهم الوافدين الجدد إلى الحانة، الذين يشكّ بأمرهم جميع من حولهم على أنهم عناصر مخابرات جاءوا يستقصون عنهم.
تتعقد أزماتهم، لكن الحنين إلى الوطن الجريح يظل الحلّ الوحيد لجيلٍ لم يكن يحلم إلا بدولة تضمن له حريته وكرامته. وفي ظل انغلاق علاقاتهم الاجتماعية لأسباب أمنية، يبقى شارع الحمرا يلمّ شملهم ويكوّن بادرة أمل يومية يعيشونها بألفة تذكّرهم بأسواق دمشق وليالي حلب وبطولات حمص وتضحيات دير الزور.