كانت الثورة السورية، بطرحها قضية الحرّية من قبل "الوافد" الجديد الذي كان غائباً لعقودٍ عن المسرح، وأقصد الشعب بمختلف شرائحه؛ مقصداً وسبباً لتدخل الكثير من الدول الإقليمية والدولية في شؤونها، كلٌّ لغايته. لكنهم اشتركوا في غايةٍ واحدةٍ هي ألا تصبح سورية، بموقعها الجغرافيّ والسياسيّ، بلداً حرّاً يمتلك ناصية قراره.
وبين طرفي المعادلة كانت درجات الانحياز مختلفة، فإلى جانب قوى الثورة كانت المواقف والتصريحات وصراع المصالح وصولاً إلى حدّ "العداوة"، بينما حكمت القوى المساندة للنظام، وهي إيران وروسيا، حالة الوحدة لمصلحة بقاء الاستبداد وكسر الثورة.
لم تتخلف روسيا عن الدعم السياسيّ والعسكريّ للنظام منذ اللحظات الأولى عبر تغطيته في مجلس الأمن، فاستخدمت حقّ النقض لتفشل أيّ مساعي لإصدار قرار إدانة، ولم تنقطع عن تقديم الخبراء والعتاد العسكريّ. وبعد استخدام النظام السلاح الكيماويّ ضد المدنيين في الغوطة في آب 2013، وقتل أكثر من (1300) إنسانٍ، مما دعا أمريكا إلى أن تحشد بعض أساطيلها مهدّدةً بتوجيه ضربةٍ للنظام؛ بادرت روسيا -وعبر تفاهمٍ مع أمريكا- بالإعلان من موسكو، على لسان لافروف وبحضور وليد المعلم، عن قبول دمشق بتسليم مخزونها من السلاح الكيماويّ وموافقتها على توقيع معاهدة الحدّ منه، وكانت تلك أولى خطوات صنع "روسيا الجديدة" في سورية. ثم جاءت بعدها مباشرةً الدعوات إلى مؤتمر جنيف2، الذي انعقد بتاريخ 22 ك2 2014، كتكريسٍ للمشاركة الروسية في صنع القرار السوريّ، بعد إيران، عندما جاء الرفض الرسميّ السوريّ وتكرّرت القصة فأعلن لافروف، مرّةً ثانية، عن مشاركة النظام في المؤتمر.
عقب تزايد دور إيران في سورية خلال العامين الأخيرين، ومع توقيعها الاتفاق النوويّ مع الغرب؛ اندفعت روسيا أكثر نحو التدخل المباشر في سورية لحساباتٍ مصلحيةٍ إقليميةٍ ودولية (شبه جزيرة القرم وأوكرانيا). فقامت بالتدخل المباشر عبر عشرات الطائرات الحربية ومثلها من الاستطلاع، وبالتنسيق المباشر مع إسرائيل، ابتداءً من نهاية أيلول، بحجّة محاربة الإرهاب (داعش)، لكنها ركّزت معظم غاراتها على مناطق الجيش الحرّ، فهجّرت المدنيين بعد تدمير مناطقهم بشكلٍ كامل، لتحرز تقدّماً مؤقتاً على الأرض بمشاركة ميليشيات إيران الشيعية من لبنان وأفغانستان وغيرها. ومن جهةٍ أخرى كان ظهور "قوّات سورية الديمقراطية"، التي أسهمت الولايات المتحدة في تأسيسها في أواسط العام الفائت، وعمادها الأساسيّ حزب الاتحاد الديمقراطيّ الكردي وقوّاته العسكرية؛ فرصةً مناسبةً لتصفية حساباتٍ روسيةٍ مع الجارة الشمالية (تركيا) عقب إسقاط الطائرة الروسية، محققة الحدّ من الدور التركيّ في سورية. فبادرت إلى دعم هذا الحزب سياسياً (المؤتمرات في موسكو ولبعض "المعارضين الوطنيين" السوريين)، وصولاً إلى افتتاح ممثليةٍ له هناك كبديلٍ عن قوى المعارضة العسكرية والسياسية التي تشكلت هيئتها في الرياض، والتي ضغطت موسكو بشدّةٍ لإدخال ممثليها فيها ولم تنجح، فعمدت إلى عقد مؤتمرٍ لهذه القوّات في التاريخ نفسه في المالكية (شمال شرق سورية)، إضافةً إلى عمليات الاغتيال بعده (زهران علوش).
جاءت جولة جنيف3 عقب اتفاق مجموعة العمل الدولية في فيينا لتكرّس نجاحاً روسياً وتراجعاً في مطالب الشعب السوريّ في بداية العام الحالي. تزامنت الاجتماعات مع عمليات قصفٍ مرعبةٍ في جنوب وشمال البلاد، حيث استطاعت قوّات النظام وحلفائه التقدّم بحجّة فكّ الحصار عن نبّل والزهراء في شمال سورية، لتهجّر أكثر من 200 ألفٍ من سكان الريف الشماليّ لحلب في عمليةٍ تشبه كثيراً عمليات الإبادة والتطهير العرقيّ وترقى إلى جرائم الحرب. فتوقفت المحادثات في جنيف بعد محاولات روسيا تشتيت المعارضة وخلق أكثر من جهةٍ تدّعي المعارضة بغية إضعاف موقف هيئة التفاوض. واستطاع الوحش الروسيّ بعدها أن يفرض شروط هدنةٍ مع أمريكا، بإقصاءٍ كاملٍ للدول الإقليمية، بعد أن أبعد حتى الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن. في هذه الفترة طرح بشار الأسد الانتخابات التشريعية في نيسان المقبل، ضمن هامش "السيادة" المسموح وكتوجهٍ إيرانيّ، بينما أعلنت روسيا أن الانتخابات في سورية لا بدّ أن تتمّ بعد الاتفاق على تعديلاتٍ دستوريةٍ تلي عملية التسوية، أي بعد الترتيب الروسيّ لسورية الذي يتضح من الوقائع أنه يحمل في طياته عملية تطهيرٍ عرقيٍّ وتحويل سورية إلى بلدٍ مؤلفٍ من جماعاتٍ دينيةٍ وقوميةٍ مختلفةٍ تحكم روسيا بينها لمصلحة الأقليات بدكتاتوريةٍ أقلّ وتقاسمٍ سياسيٍّ للسلطة بين المكوّنات، وصولاً إلى سورية –عذراً، روسيا- الجديدة ولكن بدون ذيل الكلب، أو بذيلٍ لا يتحرّك.