كولاج | جون | خاص عين المدينة
رغم كل ما نراه الآن، لم تتشكّل معالم سوريا الجديدة بعد. ويرجع ذلك إلى أسبابٍ لا مجال للاستفاضة فيها هنا، ولكننا سنتناول على وجه التحديد الفرق بين «مجتمع الثورة» وعموم السوريين؛ فالأول مكوَّنٌ من البيئات الثائرة، وناشطيها، وتعبيراتها المدنيّة والسياسيّة... إلخ. أما الثاني فهو أوسع من ذلك بالطبع، حتى لو رغب بعضنا بتجاهل ذلك مرحلياً. فوفق المعيار الجغرافي المعروف الذي حدّد «السوريين» عمّن سواهم، ونعني بذلك الحدود المعتمدة للدولة منذ الاستقلال؛ تُضاف إلى جمهور الثورة قطاعاتٌ واسعةٌ من المتردّدين في تأييدها، والمتخوّفين من نتائجها، بل وأعدائها الحاليين، الذين لم يتورّطوا في سفك الدماء بالتأكيد. ولكلّ هؤلاء الحقُّ في المشاركة في تحديد صيغة سوريا المستقبل. ومن هنا، فإن الأصوات الأعلى حالياً، في وسائل الإعلام و«على الأرض»، كما يحلو القول، ليست الصوت النهائي في المستقبل، كما يطيب لأصحابها أن يتصوّروا، ولأعدائهم أن يهوّلوا في فوبيات متنوّعة، أبرزها فوبيا القاعدة والإسلام المتشدّد بالطبع.
وإذا كانت الطباع والميول البدئية للمجتمعات التي احتضنت الثورة، قد أسهمت في بروز أجزاء من هذه النوازع ـ ضمن أسبابٍ أخرى ـ فإن لمجتمعاتِ التلكؤ أو التشكيك أو الخصومة ميولاً مغايرة بشكلٍ واضح. وطالما أن أحداً لن يستطيع أن «يبيد» هؤلاء، كما تصرّح أصواتٌ نزقةٌ مألوفةُ الوجود خلال النزاعات الدمويّة، فإن من الجيّد والضروريّ التفكير بالأرضيّات المشتركة التي ينبغي أن تشاد عليها الدولة من جديد، وتُستعاد لحمة المجتمع على صعيدٍ وطنيٍ متكامل.
وربما كان من المفيد هنا التذكير بأن هذه الكتل السكانيّة ـ والانتخابية، بالمناسبة ـ لا تقتصر فقط على أبناء الأقليّات الطائفية، وخاصةً العلويين، الذين لا يشكّلون رقماً سهلاً بالطبع، بل تضمّ شرائح واسعة من أبناء المدن الكبرى، وشرائح أضيق من أبناء المناطق الثائرة نفسها، الذين لم يوافقوا أهليهم على التيّار السائد بينهم حالياً، فضلاً عن معظم الأكراد، الذين لا يبدو الخطاب الحالي للثورة ملبيّاً لتطلّعاتهم، ولا نقصد الصعيد القومي هنا، بل مسائل من نوع شكل الدولة ودستورها ومصادر القوانين الناظمة لها، وما إلى ذلك من قضايا.
وإذا كان الصوت المدنيّ في الثورة قد صار الأضعف حالياً، نتيجة إحجام من ذكرنا عن المشاركة فيها؛ فإن سبب تقويته في الدولة المفترضة هو انخراطهم في بنائها بفاعليّةٍ. وبمقدار ما يتأخّر وعيهم بأن دولة الأسد زائلة، وأن التفكير المجدي للمستقبل هو أخذ مكانهم الطبيعي في خريطة ما بعده، بدل الاستمرار في الانكفاء والتشكيك؛ بقدرِ ما سيُترك المجالُ للآخرين ليقرّروا مسائل الدولة الكبرى، التي ليست محلّ اتفاقٍ، بل و«يعيّنوا» ممثلّين عن هذه الكتل الطائفيّة أو المناطقيّة أو الاجتماعيّة، على هواهم، وفاءً شكلياً لمتطلبات تمثيل عموم السوريّين، وسيراً على نهجِ ما أرسى الأسد الأب من مخاتلةٍ في التعيينات والمناصب، لتزيين الوجه الطائفي القبيح لنظامه.
وإذا كان مبدأ «التثقيل الثوري» قد طُبِّقَ عند تشكيل بعض المجالس الثوريّة، أو المحليّة، فهو مبداٌ مشروطٌ بالثورة ومتطلباتها العسكريّة والطبّية والإغاثيّة والتعليميّة. ومن غير المقبول سحبُه على الدولة، وقيامها على أساسه. من المفهوم أن من دفع الثمن الأكبر في سبيل حريّة عموم السوريّين سيتمتّع بالصدقيّة الأعلى، والجماهيريّة الأوسع، ولكن هذا يجب أن لا يعني استبدال ظلمٍ باستئثارٍ، واستئصالٍ بإقصاء.
وما دامت أفكار الدويلات مجرّد أحلام يقظة مشوّشة، لأنها لا تجد سنداً جدّياً من معطيات الجغرافيا والسكّان والموارد الطبيعيّة، فإن «قدرنا» هو العيش معاً ضمن الحدود الجغرافيّة للكيان القائم، مختلفين في المذاهب والرؤى. ولا يمكن بناء بلدٍ مستقرٍ من جديدٍ دون إدارةٍ متوازنةٍ وعادلةٍ لهذا التعدّد. وهذا ما يجب أن نعِيه جميعاً، بدءاً من صقور الثورة، ووصولاً إلى «فلول» النظام المحتضر.