منذ تأسيس الإمبراطورية الروسية وحتى انهيارها، كان الهمّ الرئيسيّ لقياصرتها من آل رومانوف هو اللحاق بتقدم أوروبا وتسخير هذا التقدم لنزعاتهم التوسعية. فسعوا إلى نقل قيم الحداثة والتنوير الغربية، لكن بوسائل عنيفةٍ وقسريةٍ مفروضةٍ من الأعلى، تحفظ لهم السيطرة والهيمنة، دون إشراك المجتمع في هذه العملية التاريخية الكبيرة.
وفق تلك العقلية الثنائية؛ الدونية تجاه الغرب والتعالي على الشعب الروسي، ولدت وكبرت وانهارت الإمبراطورية وأحلامها التي لم تغب عنها أبداً نزعة التوسع العسكريّ والحروب مع الجيران. تلك النزعة التي استمرّت حتى عهد القيصر الأخير نيكولاي الثاني الذي زجّ بلاده في الحرب العالمية الأولى، التي حصدت أكثر من ثلاثة ملايين روسيٍّ، فكانت نهاية الإمبراطورية على يد الثورة التي تصدّرها (في شباط 1917) تيارٌ من الاشتراكيين الثوريين الديمقراطيين لغاية نهاية العام عندما استطاع البلاشفة، بزعامة لينين، انتزاع السلطة من رفاقهم في الحزب. وسرعان ما استطاع ستالين الانقلاب على خط لينين بحجة العدوان الخارجيّ وتهديد الثورة، فلجأ إلى التخلص من منافسيه، مؤسّساً لبداية السلطة الدكتاتورية في الحزب والبلاد، والتي أودت بحياة الملايين.
نجح ستالين، بالحديد والنار، في تحقيق جزءٍ من أحلام أسلافه القياصرة بنقل روسيا من بلدٍ متخلفٍ زراعيٍّ إلى بلدٍ صناعيٍّ متقدمٍ ولكن في المجال العسكري فقط، بينما ظلت بقية القطاعات ترزح تحت حالةٍ من التخلف بمختلف أشكاله. لكن حكم الرجل الفولاذيّ كرّس قضية العداء للحرية باعتبارها نزعةً برجوازيةً ترعاها الدول الإمبريالية، مبرّراً بذلك عمليات قتله الوحشية، إضافةً إلى دور الزعيم الذي لا يخطئ. استمرّ هذا النهج داخلياً وخارجياً، ففي الداخل تم اجتياح المجتمع بكافة مفاصله وسحقه تحت جزمة الأمين العام والمخابرات، وخارجياً بدعم الأنظمة الديكتاتورية في العالم ومساعدتها على تأسيس الأطر التنظيمية الداعمة للاستبداد من أحزاب كارتونيةٍ ومنظماتٍ شعبيةٍ تتغلغل في بنى المجتمع لتفككه وتدمره وأخيراً تعيد صياغته وفق توجهات الزعيم وأجهزته الأمنية.
مع نهاية ثمانينات القرن الماضي وتفكك البلد الأم "المرضع" لمنظومته الاشتراكية، وما رافق ذلك وتلاه من تفكك دوله التابعة، تحت دوافع وحاجاتٍ ومشاكل حقيقيةٍ وأخرى خارجية؛ انحدرت تلك البلاد إلى منظومةٍ منفلتةٍ من القيم والسياسات والعلاقات الخارجية، وتحت قيادة شخصياتٍ من الحزب القائد ذاته. فبوريس يلتسين، الذي كان عضو المكتب السياسيّ للحزب الشيوعيّ السوفييتيّ ومسؤول منظمة موسكو، صار الزعيم المنتخب الذي سينقل روسيا نحو التحرّر من الاستبداد! فأضعف دور الدولة بالكامل لصالح العصابات المنظمة (المافيا)، عارضاً كلّ شيءٍ للبيع بما فيه كرامته.
وفي اليوم الأخير من 1999 تقدم يلتسين باستقالته لرئيس حكومته فلاديمير بوتين؛ الشخصية الآتية من قلب الحزب ومن أقذر أجهزة السلطة: المخابرات، والذي قضى خمس سنواتٍ في ألمانيا الشرقية حيث كان يتمّ التخطيط للمخابرات ومركز علاقتهم مع مخابرات الأنظمة الديكتاتورية في العالم، ليصبح بوتين رئيساً بالوكالة، ثم ليتقلدها بشكلٍ رسميِّ وشرعيٍّ ويستمرّ في قيادتها حتى تاريخنا، سواء كرئيسٍ للحكومة أو للجمهورية، بالتناوب مع ديمتري ميدفيديف.
إذاً، لم يشهد المجتمع الروسيّ حركة إصلاحٍ دينيةً كنظيرتها الأوربية تعطي استقلاليةً لهذه المؤسسة الكبيرة وتحرّرها من سيطرة السلطة. وأفشل الحلمُ الامبراطوريّ والانشغال بالحروب والتوسع الخارجيّ، وقمع كلّ حركات التنوير، عمليةَ التحديث التي ظلت قاصرةً بلا مؤسسات. فنتج عن ذلك عقلٌ متعالٍ استبداديٌّ استمرّ مع كلّ السلطات والحكام بغض النظر عن الأيديولوجية السائدة. فعبر التاريخ كانت الحروب محور سياسة القصر، وما سياسة الحرب الباردة التي سادت لأكثر من خمسين عاماً، ودعم الاتحاد السوفييتي لكلّ الأنظمة الديكتاتورية في العالم، وخاصّةً في بلادنا، وأنظمة الموت الشامل في شرق آسيا، ناهيك عن تبنيه المطلق لنظام كوبا؛ إلا تجلٍ واضحٍ لنزعة الاستبداد المعممة لدى الروس. وعدا عن قيادة الكرملين، هناك المنظمات التي أنتجها الاستبداد وتماهت معه، مثل اتحادات الكتاب والرياضيين والفنانين، والكنيسة، ناهيك عن "نواب" الشعب الذي يقدمون التهاني والدعم لانتصارات وإنجازات الأنظمة الديكتاتورية في العالم.
وإنّ ما واجهناه، نحن السوريين، خلال الأعوام الخمسة المنصرمة، من موقف روسيا الداعم المطلق لنظام الطغمة في مواجهة الشعب، على مختلف الأصعدة الدبلوماسية والإعلامية والسياسية والعسكرية، وعبر قطاعاتٍ مجتمعيةٍ من أحزابٍ ونوّابٍ وكتابٍ وفنانين ورجال دين وغيرهم؛ ليس إلا تعبيراً عن العقلية الاستبدادية الروسية لا تعبيراً عن مصالح روسيا، فهناك طرقٌ عديدةٌ لتأمينها. لكن يبدو أن القادة الروس لا يبحثون عن مصالحهم إلا مع الديكتاتوريين وعلى حساب الشعوب، غير مدركين، أو ضاربين بعرض الحائط، تطلعات الشعوب وأولها الشعب الروسيّ.