في القرداحة، تلك المدينة غريبة الأطوار، حيث يشاهد الزائر أول ما يشاهد ذلك المضلّع الموحش، ضريح حافظ الأسد، تغدو صورة أيّ بناءٍ حكوميٍّ، مثل مدرسةٍ أو مستوصفٍ، أو حتى مخفر شرطة، صورةً مطمئنةً للنفس، رغم غرابة أن تبنى هكذا أبنيةٍ أصلاً في مكانٍ فوق الدولة مثل هذا.
لأنها أرض اللامعقول تصير حتى هذه المنتجات القبيحة للعمارة الاشتراكية في القرداحة أشياء أنيسة، فقط لارتباطها بسياقاتٍ أخرى خارج هذه الأرض. ولأنها منبت الشخصيات فائقة الطيش والإجرام يصير أيّ شخصٍ منها يمكن العثور على من يشبهه في مكانٍ آخر، إنساناً يمكن تقبله ولو جزئياً. أمين الفرقة الثانية لحزب البعث، خلدون وفيق علي، ممثلٌ لهذا النوع. فهذا الشاب الثلاثينيّ الدؤوب في خطّي حياته المتلازمين، الحزبيّ كنصيرٍ ثم عضوٍ عاملٍ ثم أمين فرقة، والوظيفيٍّ كمعلمٍ ثم مدير مدرسة؛ أبلى بلاءً حسناً في ترقيه درجةً درجة دون أن يخرق القوانين بشكلٍ فظٍّ على طريقة بعض أبناء العائلات البارزة في مدينته. وربما كان لأبيه، مزارع الحمضيات والزيتون، أثرٌ في سيرته المنضبطة هذه وسيرة شقيقيه؛ الأكبر علي معلّم المدرسة هو الآخر، والأصغر حازم، المهندس المدنيّ، قبل أن يُطلب للخدمة العسكرية ويقتل قبل عامين ونصف على جبهات حلب.
بمقتل حازم وضياع جثته، وبوفاة والده من قبل، صارت لأمين الفرقة مأساةٌ أضافت المزيد من الكآبة وثقل الروح إلى شخصه. لكنه لم يستسلم للأحزان، فقد شارك، بعد أيامٍ من مقتل أخيه، في حملة الوفاء لـ«القائد الخالد» التي تبدأ بدهن الأرصفة وتنتهي بقراءة الفاتحة والتقاط الصور داخل الضريح، ولم يفوّت واحدةً من هذه الحملات التي لا تتوقف في القرداحة. ورغم انشغاله الدائم بواجباته الرسمية، لم يقصّر في تهنئة أيٍّ من أبناء مدينته على «ثقة القيادة السياسية به» عندما يعيَّن كمديرٍ –دوماً- لمؤسّسةٍ ما من المؤسّسات الحكومية، حسبما يظهر على صفحة الفرقة الثانية التي يديرها على موقع فيسبوك. كما لم يقصّر أيضاً –على صفحته الشخصية- في التعزية، باسم أولاد وفيق علي، بأيّ «شهيدٍ» يسقط من أبناء حيّه شهاب الدين أو الأحياء الأخرى.
عندما تعصف بروحه الذكريات يعيد أمين الفرقة نشر صور شقيقه «الشهيد» في الجامعة أو أثناء خدمته العسكرية، ونشر صورٍ عائليةٍ قديمة، أو صورةً للأب وحده داخل قلب. وبعد كل زيارةٍ من زياراته المتكرّرة إلى مقام الشيخ يوسف الردّاد القريب من بيته، يظهر مدير المدرسة على باب المقام بالملامح ذاتها في كلّ صورة. وخلال ثلاثة أعوامٍ، في كلّ مرّةٍ تنجح فيها ابنة شقيقته من صفٍّ دراسيٍّ إلى آخر، يتمنى لها، وبالعبارة ذاتها، أن تكون متفوقةً مثل خالها المهندس «الشهيد». وبأقصى درجات التأثر يعيد أمين الفرقة نشر صورةٍ لما كتبه الأخير قبل مقتله بأسابيع: «لإيمت راح ضل أسمع باستشهاد زينة الشباب... يا الله فرجا علينا، والله تعبنا، وآآآه يا دنيااا».
في القرداحة، أيضاً، ناسٌ عاديون، مثلنا تقريباً، لولا حظهم العاثر الذي وضعهم هناك.