قلما يتفاجأ قائد الوطن لكنه تفاجأ هذه المرة، كان ناسياً بشكل تام أن عيد ميلاده يصادف في هذا اليوم الذي سيزور فيه داره الثقافية الفنية "دار الأسد للثقافة والفنون"، والتي ستعرض فيلماً لأكثر المخرجين المقربين من دائرته الضيقة، وصاحب الكاميرا التي واكبت بنادق جيشه في منجزاتها، لتحولها إلى أعمال سينمائية تجعل من مخرجها ما يشاء: رئيس مجلس الشعب حين أراد ذلك، وعضواً ثائراً في البرلمان. مفاجأة من العيار الثقيل أن يصدح جمهور الدار من الحاضرين للفيلم، ويغني "هابي بيرث داي تو يو".. أعوام طويلة مرت على القائد دون أن يشعل له أحد شمعة عيد ميلاده.

لن يجهد أي فرع أمني بما فيه دار الأسد بالبحث عن صاحب المبادرة، فهي لا بد جاهزة قبل أيام من عرض الفيلم، كل كرسي في الدار يعرف تماماً من سيجلس عليه خلال العرض، فبمجرد معرفة الدار بأن القائد سيحضر الفعالية، سيكون لكل كرسي صاحبه، بالاسم والرقم والصفة، وهو ما اعتادته الدار منذ إنشائها. حينما يأتي الأسد للحضور تستنفر كل مكاتب الدار، وتوزع البطاقات بعد مراجعة أمنية للقائمة، يمكن أن تحذف منها بعض الأسماء ذات الولاء غير الكافي، وتضيف إليها أسماء أخرى سيجبر أصحابها على الحضور، بل وعلى المشاركة في الغناء. لا شيء مفاجئ في هذا السياق، لكن الأسد يعرف الوقت المناسب للمفاجأة.

"دم النخيل" الفيلم الذي صادف عرضه يوم عيد ميلاد الأسد (يا للمفاجأة)، فيلم دارت كاميراته في تدمر تحت إشراف مدرعات وبنادق سورية وروسية، "حررت المدينة" من سلطة داعش، التنظيم الذي سيطر على المدينة الأثرية ودمّر من آثارها ما شاء، وباع ما تركه سماسرة جيش النظام ومخابراته. تقاسم التنظيمان المدينة خراباً وتجارةً واستثماراً سياسياً وثقافياً، ولم تغفل روسيا حضورها، من خلال أوركسترا عسكرية قدمت الموسيقا الكلاسيكية الروسية على المسرح الأثري في تدمر، قبل أن يأتي نجدة أنزور ويبدأ بتصوير مشاهد فيلمه. كل ذلك كان مقدمةً لعرض الفيلم الذي سيحتفي بتدمر وعيد ميلاد الأسد وسط دمشق.

لم يأتِ الأمر بعد لوسائل الإعلام الرسمية وفي مقدمتها وكالة سانا، التي عادة ما تضطرب في مناسبات كهذه، "هل ننشر أم لا؟" وسيأتي الجواب سريعاً من المكتب الواقع في الطابق قبل الأخير منها، ليقول "لم يأتِ الأمر بعد"، فتنتظر الدفعة المناوبة فيها حتى الصباح بانتظار أمرٍ يعرف أغلبهم أنه لن يصدر، وستتاح لقنوات أخرى غير رسمية نقل الخبر بفيديو خاضع للمراجعة مسبقاً من القصر الجمهوري، لتتولى مهمة نقل فيديو مدته 13 ثانية، يقف فيها الأسد قرب الكرسي المخصص له في الدار، وينثر قبلة على الجمهور الذي يردد التهنئة، ثم تربت أسماء على كتف زوجها في رسالة تقول فيها "أرأيت يا عزيزي، شعبك دائماً يريد أن يفاجئك بمدى حبه لك، وإن كنت نسيت عيد ميلادك بانشغالك في محاولة فهم تفاصيل المنطقة الآمنة، والنقاط الخلافية بين إيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة على تقسيم شمال البلاد التي من المفترض أنك تحكمها، فإن جمهورك قد وضع تاريخ ميلادك على أجندته اليومية، ليسوق نفسه إلى الدار حيث يعرفون أنك لن تفوّت مشاهدة فيلم بهذه العظمة، ويرددون لك ما نسيته منذ نعومة أظافرك، نعم أنت تستحق هذا الجمهور وتستحق الكاتو أيضاً".

دم النخيل لم يكتمل إلا بهذا المشهد الأخير، ليتم تركيب الجزء الأخير منه بحضور المسؤول عنه، وكاتبه ومخرجه وبطله بشار الأسد، ولئن استعان بمجموعة من الفنيين فذلك لا بفعل إهماله، إنما هو ضيق وقت الزعماء المعروف.