كانت قناة الجزيرة القطرية قد نجحت في تكريس اعتياد الجمهور العربي على "الخبر العاجل" كمفهوم صحفي، لم تكن التلفزات الحكومية العربية توليه شأناً مهماً، والواقع أنّ "الخبر العاجل" الوحيد الذي كان متاحاً حتى منتصف التسعينات عربياً هو خطاب رئاسي ممل يمتد عادة لساعات، ويزهق نهار الشعب برمته، وفي كل الأحوال -وحتى إبّان مرحلة تسلل هذا النمط المتسارع من التغطيات الإخبارية- فقد كانت سوريا في منأى عنه خلال فترة حكم حافظ الأسد، باعتبارها بيئة سياسية موصدة ورتيبة لا يحدث فيها ما يمكن أن يكون "خبراً" بالمفهوم الحديث للصحافة.

غير أنّ يوم العاشر من حزيران لعام 2000 كان يضمر لسوريا "خبرها" العاجل الأهم على مدى ثلاثين سنة، فظهيرة ذاك اليوم بثت قناتا الجزيرة وأبو ظبي خبراً يتحدث عن "أنباء عن وفاة الرئيس السوري حافظ الأسد" قبل أن تحذف تعبير "أنباء" ليصبح خبراً ناضجاً... مات حافظ الأسد. 

وهذه بعض التصورات لسوري عاش ذاك اليوم في دير الزور:

•المقطع الأول: دو شيش 

كلنا كنا نعرف أنه سيموت، لا يوجد كثير ممن كانوا يجرؤون حينها على مباغتة العلن بطرح هذه الفكرة، لكنه كان مريضاً بصورة واضحة.. عجوز هرم أكله حقده، وهوسه بالبقاء حتى باتت قبعته "البيريه" الفرنسية رمزاً لاعتلال صحته، وفي دير الزور تحديداً كان ثمة قناعة أنّه يخفي تحتها بطارية ما تبقيه حيّاً، وقد نفذ شحنها في ذاك اليوم.

لكنه كان توقعاً عائماً، فلم يكن من الممكن إنجاز حسبة تآكل واضحة للطاغية السفاح، بالرغم من إشاعات عدة عن تحليل بول أجراه له الأميركيون في أحد فنادق جنيف خلال لقائه مع الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، واستنتاجهم -كما كان السوريون مصرين على الاقتناع- بأنه "خالص".

لكنّ شخصاً مثل حافظ الأسد كان يقتات بموت الآخرين، دراكولا لا مبادئ ولا قصة حزينة، يصعب الرهان على موعد تلف وتد الفضة لبطاريته البائسة، إنّها باختصار مفارقة الاحتمال المؤكد في موعد منفي بالخوف.. كنا كمن يجلس إلى طاولة الزهر ونرده في يده لكنه حصل على.. دو شيش. 

•المقطع الثاني: شيزوفرينيا أفقية

كان هذا أيضاً احتمالاً أكيداً، لكنه معلن النفي تحت سطوة إدراك تناسخ النظام، انشطر المجتمع إلى أغلبية مترقبة في علن إخفاء البهجة وأقلية تتعفر بالتراب، وتتعمد إظهار "العين الحزينة الحمراء".

لم يصدق أحد بالطبع خرافة الاتصال الهاتفي في لحظاته الأخيرة مع الرئيس اللبناني آنذاك إميل لحود، ووصيته الكاريكاتورية لـ"الأجيال اللاحقة".. كل السوريين كانوا يعرفون اسم هذه "الأجيال اللاحقة"، وطولها ولون عينيها ورتبتها العسكرية والمعلوماتية.

قيل أنه مات الثلاثاء وأعلن عن موته الجمعة بعد أن أنهيت ترتيبات توريث سوريا، وطبعاً بعد أن حوصرت دمشق بمرابض المدفعية ووضعت الطائرات على أهبة القصف. وكان هذا إرث حافظ الأسد الحقيقي... فرانكشتاين سياسي اسمه بشار يحكم بروح أبيه، ويؤكد أنّ الطاغية -الذي كان مشهد تابوته فالق الانقسام الأفقي بين السوريين- لم يمت حقاً.. وإن كان قد مات فعلاً.

•المقطع الثالث: شيزوفرينيا عمودية

في الذات المفردة تمزق السوريون بين شهوتين عارمتين؛ المعضوضون واصلوا تمرغلهم المنسجم -هذه عادة مستوطنة في الذهان الأسدي للسطوة- بينما علق الضحايا بين وادي "مستر هايد" الذي يريد أن يفور فرحه وهيجانه الشامت في الطرق، وبين سفح "دكتور جيكل" الذي يحسب كل كلمة تقال كي لا يتسبب في إعدام قرينه السعيد بتهمة وهن نفسية الأمة.

كانت من أصعب أيام البهجة في سوريا، مات قاتلك قبل أن يقتلك، وتريد حياة في عالم آخر كي تحتفل بحياتك التي شهدت "خبره" العاجل، لكنك أسير حصافة الخوف من أن يكون سمّ الكراهية أقوى من ترياق النشوة.. دوائر الثقة المغلقة بين شطري الفصام السوري هي فقط ما كانت تنقذ الضحايا من الإصابة بسكتة الشماتة.

•المقطع الرابع: منبطحاً.. أصفر 

احتاج الأمر إلى 13 سنة كي يبول أحدنا على رأسه، أبو طه الكهل الرقاوي وضع وتداً "ذهبياً" مكان البيريه، انتقم مستر هايد لفرحه المكتوم، ولم يكن بوله بحاجة إلى أي تحليل.. كان خبراً عاجلاً من بهجة برائحة واخزة.