- Home
- Articles
- Radar
حي برزة الموصد وحكاية دروع الدولتين البشرية
يُطل علينا المذيع في برنامجه (آآآآآخر ساعة) كما اعتاد قولها، في النشرة (99 قتيلاً في سوريا اليوم حصيلة...) أضحك ساخرة، لم كل هذه الدقة؟ باستطاعته أن يقول (100!). لم أُكمل الأخبار، دخلت غرفتي بعد خطوتين نزلت على ركبتيّ...لو أكملت خطوة ثالثة لاستقرت رصاصة في رأسي..تركت أثراً على باب خزانتي، لازالت أمي تُصرّ على وضع زهرة تُخفي أثرهاً، حتى استحالت جدران غرفتي إلى مشتل أزهار لإخفاء آثار الشظايا.
مضى أسبوعان قبل أن نعبر الشارع الفاصل بين الموت والموت، كنت برفقة والديّ وأختي، التفتّ إلى منزلي، شعرتُ بثقل الأغراض القليلة التي أحملها وأنا أمر أمام العساكر التي تنظر إلينا. بين السواتر الترابية كنا ننطق بالشهادة، أصبحنا الآن في عداد النازحين.
ثلاثة أشهر مرت ولا زال والدي يعيش حالة (يومين ومنرجع)، وتجيبه أمي (بس يفتح الطريق....). كانت صلاة الفجر الأخيرة لنا في البيت الذي انتهى عقد إيجاره. بيت آخر ينتظر تنظيفاً و(رمضان عالباب)، كانت أمي آنذاك تُنظّف وتبكي وتكيل بالدعاء على المنزل وصاحبه، وتنتظر مكالمة جارتها الشاكية الباكية الخائفة لتسرد لها أحاديث عن داعش والنصرة، تُشعل جبهة وتنهي حرباً بمكالمة، وكأنها في خطوط القتال الأول، ثم تنهي مكالمتها بعد أن تفرغ خوفها في قلب أمي.
من هنا مرّ جنود الأسد
(هلأ اتفقنا حجي إن شاء الله الأسبوع القادم لح تطلع منظمة اسمها AYM لح تأمن لنا بيوت مؤقتة خلال شهرين ونص). أخيراً أطل علينا محافظ دمشق في فيديو، بدا متعباً منهكاً لا يرتدي ربطة عنق، خلافاً لمرافقيه، ليخبرنا بإمكانية العودة إلى حي برزة بعد إغلاقه قرابة العام.
يوم الاثنين كان موعدنا الأول مع العودة، (كولبة) على الرصيف..ماذا نفعل؟ (اترك هويتك وسجل اسمك وادخل!). تعلّقت عيناي كغيري على أبنية مشوهة، محترقة، متآكلة وكأنّ أسيداً سُكب عليها، شرفة تكاد أن تهوي، أتعثّرُ بحفر أحدثتها شظايا لم أحصيها، أُقلّب نظري بين الأبنية سراعاً لأرنو إلى منزلنا من بعيد. الماء ينهمر من كل ثقب، روائح نتنة، أثاث متآكل وزجاج نوافذ. أحد العساكر يُشعل كرسياً عرفت من قماشه أنه يعود لجارنا، دكتور جامعي ومرتشي أيضاً، منزل جارنا الثاني محترق بالكامل، يعود إلى موظف وزوجته في الجمارك.
(اطلعوا لعند العقيد..بالطابق التالت). احتل العقيد منزل (سفير سابق) ظننته في البداية متجراً لبيع الإلكترونيات، كان الصالون محاطاً بشاشات تلفزة موصولة بكاميرات ترصد ما حول البناء. في غرفة الضيوف وأمام مدفأة تركت آثار وقودها على السجاد العجمي كان العقيد يتكئ بحذائه على كنبٍ فخم، سابقاً كان بيت السفير يحوي في أثاثه قطعة من كل بلد، برّر العقيد كثرة الشاشات، لم أفهم شيئاً من كلامه سوى أن البناء الذي نسكن فيه بات خطاً فاصلاً بين جيش النظام والحر ونحن (درع بشري)!
انتهت جلسة الاستجواب والتفتيش، خرجتُ قبل والدي مسرعة في الصعود أُطالع ما كُتب على الجدران (من هنا مر جنود الأسد -الفرقة الرابعة-المخابرات الجوية..)
العشاء الأخير
علامات خدش عميقة تشي بمحاولة خلع الباب..منزلنا مقلوب رأساً على عقب، مشيت على ثياب وأغراض ملأت المكان. شيء أسحقه دون قصد فينكسر، رائحة نشادر..آثار دم، صور نساء عاريات تخلصت منها أولاً، لم أجرؤ على فعل أكثر من ذلك فالعسكري يتعقبني. مُنع والدي من تركيب قفل للمنزل، في اليوم التالي فُقدت جميع الأجهزة الكهربائية، قبيل خروجنا كانت اللجان الشعبية تسرق، من بقي إذن؟ الشرطة العسكرية والمخابرات الجوية والقوات الخاصة والأمن السياسي..علماً أن الأخير كان الفوج الأخير الذي يقطن البناء!
في كل زيارة تتفحص والدتي وجهي عند عودتي علّي أُخفي شيئاً، اعتادتني أُخفي الكثير من الأخبار السيئة عنها. يمازحني زميلي بالقول (تتجولين في منزلك وأنت بين دولتين!). أنامُ في غرفتي المطلة على حاجز للنظام، أطهو طعامي في المطبخ المطل على حاجز للجيش الحر! بدأت أطالع تقارير صحفية عن حياة الناس أمثالي ممن يعيشون بين جبل محسن وباب التبانة في طرابلس، حتى استحالت بيوت البعض إلى عجلات سيارات تتموضع عند النوافذ.
اعتدت المضي في طريق مشترك بين طرفي الصراع في مدة أقصر من المعتاد خوفاً من اشتعال فتيل اشتباكات لا موعد لها، أقف عند حاجز الحر يسأل. أمضي إلى حاجز النظام ويسأل، والمضحك في الأمر أن كل منهما يعتقد أني من طرف عدوه! واعتدت النزول على ركبتي للحبو كطفلة أختبئ مع والدي الذي يئن من ألم في ظهره تحت طاولة الطعام، التي اعتدت مسح غبارها فقط... لم يجلس إلى مائدتنا أحد مذ عدنا إلى المنزل خوفاً من أن يكون العشاء الأخير!
أن تعيش بين دولتين يعني أن تكون درعاً بشرياً يلزم وجودك كذريعة لكل طرف، يعني أن تحمي وجوده، يعني أن يُهدّد بك، يُقاتل بك ويقتلك ليتهم عدوه بقتلك، يعني أن تعتاد على سقوط قذيفة واثنتين أو أكثر وإن نجوت تكمل طهو طعامك، يعني أن تعيش يومك وإن بقيت حياً يعني أن تناجي الله، وإن كنت من قبل صامتاً تسأله الخلاص...أيّ خلاص من حالٍ مستعصٍ يعكس حال وطن.