حالما تبدأ سيارةٌ يقودها ملثمون بإطلاق صافرة الإنذار المركّبة فوقها ويبثّ ميكروفونها شيئاً ما، حتى يتضاعف عدد المركبات والمشاة وتتسارع الحركة في شارع التكايا، السوق الرئيسية والوحيدة في أحياء مدينة دير الزور الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة.
لا يكاد يُسمع من كلام الجالس في السيارة سوى جملة "...عوام المسلمين"، وهو التعبير الذي يستعمله التنظيم لوصف الأهالي الواقعين تحت سيطرته، باستثناء عناصره، ويفهم منه الأهالي تقديماً لإلقاء الأوامر والتعليمات المرتبطة بهم فقط. ثم تُسمع كلمة "سلامتهم"، ويفهم منها أيضاً أنّ هناك معركةً يجهّز لها التنظيم ويتوخّى من أوامره هذه تجنيب المدنيين القصف العشوائيّ للنظام.
بدأ حظر التجوال يوم الأربعاء 6-5-2015. وبالفعل، تزامنت المعارك في الصناعة وجميّان وحويجة صكر مع الأيام الثلاثة الأولى منه، وترافقت بقصفٍ جوّيٍّ مسائيٍّ عنيفٍ، لتتوقف المعارك نهائياً في حدود المدينة. تنوّعت الأوقات التي يفرض فيها الحظر بين الساعة الثانية ظهراً والرابعة عصراً والسابعة مساءً، ليستقرّ الوقت على السادسة مساءً وينتهي كيفياً مع بزوغ فجر اليوم التالي. استثنيت من الحظر بعض المحلات والمطاعم التي مُنحت ترخيصاً للعمل أثناء ذلك لخدمة "الأخوة".
ورغم أنّ نداء الحظر يترافق في بعض الأحيان بكلمة رجاء، إلا أنّ دوريات التنظيم تجوب المدينة للتأكد من التزام الأهالي بالأمر، ولتعتقل كلّ من تجده في الشارع أياً كان سبب وجوده، حتى لو كان زيارة الجيران أو رمي القمامة أو مجرّد الوقوف على شرفة المنزل أحياناً، بحسب ما أفاد بعض من اعتقلوا في الأيام الماضية. ويتراوح الاعتقال بين بضع ساعاتٍ إلى ثلاثة أيامٍ في سجن الشرطة الإسلامية، يعمل خلالها المعتقلون في حفر الخنادق على جبهات الاشتباك مع قوّات النظام، أو في دفن الموتى في إحدى الحدائق العامة. وفي هذه الحالة تتولى الجرّافات حفر قبورٍ جماعيةٍ لاستيعاب الجثث، بغضّ النظر عن الطرف الذي ينتمون إليه، ودون مراعاةٍ لمراسم الدفن، كوضع الطباقات (وهي طبقةٌ من الإسمنت أو الرخام أو الخشب، توضع فوق اللحد، وتحول بين الميت والتراب المهال في القبر). الأمر الذي أدّى إلى مشادّاتٍ بين متطوّعين في عمليات الدفن وعناصر التنظيم، ليرضخ هؤلاء في النهاية لرغبة المتطوّعين في مراعاة مراسم الدفن، باستثناء جثثٍ لأشخاصٍ مجهولي الهوية أجهز عليهم الأمنيون في الحديقة العامة.
لا توجد حصيلةٌ دقيقةٌ لعدد المعتقلين على خلفية انتهاك حظر التجوال، لكن -بحسب بعض الذين مرّوا بتجربة الاعتقال- تجاوز العدد الخمسين شخصاً يومياً خلال الأيام الأولى، وهو ما دعا الشرطة إلى إطلاق سراح البعض بعد ساعاتٍ من اعتقالهم، ليقلّ العدد في الأيام اللاحقة. كما أنه ليس معروفاً على وجه التحديد سبب استمرار حظر التجوال بعد توقف المعارك. لكن الناس، وبعد تململهم، رفضوا التفسير الأوليّ الرائج، وهو خوف التنظيم من تسريب خسائره، خاصّةً مع ترافق الحظر بمصادرة أجهزة النت من مقاهي المدينة لأنها "منطقةٌ عسكرية"، والتعهّد بإعادتها بعد "التحرير". وكذلك تراجع الادّعاء القائل إنّ الحظر جاء لإبعاد الفضوليين الذين يعيقون عمليات الإسعاف والإمداد. بينما يتناقل الناس العديد من الشائعات كان أبرزها تلك التي تحيل سبب الحظر إلى وجود أبو بكر البغداديّ في المدينة، ورغبة التنظيم في إخفاء تحرّكاته ومن معه. فيما تنتشر إشاعةٌ أخرى مصدرها مقرّبون من أمراء التنظيم أنّ الحظر جاء بهدف تشغيل الأهالي في حفر الخنادق من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى لمعاقبة سكان المدينة المكروهين من قبل أكثر الأمراء والعناصر على حدٍّ سواء. ليصل متعصّبون بالأمر إلى رغبة أهل الريف "الشوايا"، الممسكين بمواقع حسّاسةٍ في الولاية، في إذلال أهل المدينة "الديرية". كما يدّعي البعض أن الحظر يأتي ضمن سياسةٍ ممنهجةٍ من قبل التنظيم لتهجير السكان المحليين بدافع الاستيلاء على بيوتهم وتوطين المهاجرين فيها.
مع الأيام، فقد الإعلان عن الحظر تلك الضجة والحيرة والانشداه التي كان يحدثها في أيامه الأولى، حين كان الأطفال القريبون من السوق يسرعون على درّاجاتهم الهوائية ليذيعوا الخبر "حصر اجوال" في الحارات، دون طلبٍ من أحد، ليخرج على إثره الناس إلى أمام منازلهم لسببٍ مجهولٍ قد يكون تلقّط الأخبار أو الوقوف على فداحة الموقف، أو، كما يقولون لبعضهم مازحين: "للتفرّج على حظر التجوال"، أو، كما أصبحوا يسمّونه: "حظّر شوال".