ربما كانت الصدفة هي سبب نشر مجموعة الأزمات الدولية لتقريريها الأخيرين عن سورية، خلال شهر أيار المنصرم، عن كلٍّ من حزب الاتحاد الديمقراطيّ الكرديّ pyd، ودور حزب الله على الأراضي السورية. ولكن تشابه الحزبين اللذين تربيا، بنسبٍ متفاوتةٍ، في كنف النظام السوريّ، ويتوليان الآن مشاركته في قمع الثورة، كلٌّ إلى الدرجة وبالطريقة التي تناسبه، وبحسب أجنداته ومناطق نفوذه الحيوية؛ هو أمرٌ أعمق من مجرّد المصادفة المحضة.
الصــعود الهـــشّ لحـــزب الاتحاد الديمقراطيّ الكرديّ
تأسس حزب العمال الكردستانيّ، كحزبٍ كرديٍّ تركيّ، عام 1978. وخلال العقدين التاليين حظي برعاية الرئيس السوريّ الراحل حافظ الأسد، ولا سيما مع تدهور العلاقات السورية التركية في الثمانينيات؛ إذ سمحت سلطات دمشق للحزب بفتح مكاتب له في العاصمة، وإقامة مراكز تدريبٍ وتجنيدٍ في شمال البلاد، ومعسكراتٍ تحت حمايتها في لبنان. وإثر تهديد تركيا لنظام الأسد تمّ طرد رئيس الحزب، عبد الله أوجلان، على عجلٍ، واتُّخذ قرارٌ بحظر التنظيم. وفي السنوات التي تلت، ظهر حزب الاتحاد الديمقراطيّ الكرديّ، الذي أعلن عن تأسيسه رسمياً في 2003، كفرعٍ لحزب العمال في سورية. وعمل هذا الحزب بشكلٍ شبه سرّي، وأبقى معظم مقاتليه خارج البلاد، ولا سيما مع التقارب المتزايد بين سلطة بشار الأسد والجار التركيّ.
ولكن، مع اندلاع الثورة السورية، والشقاق السريع – وصولاً إلى العداء الواضح – بين دمشق وأنقرة، تغيّرت الحال بسرعة. فقد عاد صالح مسلم، زعيم الاتحاد الديمقراطيّ، من منفاه في قنديل. وشيئاً فشيئاً أخذت الأصوات التي تتهم الحزب بمشاركة النظام في ضبط الانتفاضة بين الأكراد تتزايد، مروراً بانسحاب قوّات الجيش والأمن من المناطق ذات الغالبية الكردية في تموز 2012، وصولاً إلى إعلان الحزب عن إقامة إدارة انتقاليةٍ في «كردستان الغربية»،
المكوّنة من ثلاثة جيوبٍ منفصلة، هي عفرين وعين العرب (كوباني) والجزيرة السورية، في تشرين الثاني 2013.
وعلى الرغم من وجود كثيرٍ من الخصوم للحزب بين الأكراد، إلا أن تشتت هؤلاء المنافسين وترهلهم حال دون إمساكهم بالورقة الكردية على الأرض، رغم الاعتراف الدوليّ والإقليميّ واعتراف المعارضة السورية بهم. بينما قدّم الحزب نفسه لسكان المناطق ذات الأغلبية الكردية بوصفه الحامي القويّ من هجمات الفصائل الإسلامية المقاتلة، ومنظّم الشؤون الداخلية والخدمية المختلفة، عبر قوى الشرطة (الأشايس) التي أسّسها، وكياناتٍ فرعيةٍ أخرى، تضمّ بعض مخالفيه من الأكراد، وعرباً وآشوريين لا يحظون بتأثيرٍ كافٍ. ولكن الحزب يبقى أسير لحظته الطارئة، التي تشكلت من اندراجه في حلف دمشق وطهران وحكومة العراق، وأسير اعتماده على القوة العسكرية فقط، والاستثمار في مخاوف الأكراد من الجهاديين.
حزب الله يتوجّه شـرقاً نحو سورية
أما حزب الله، الذي يستثمر أيضاً في مخاوف الشيعة من الجهاديين، حتى قبل أن يظهر الأخيرون على الساحة السورية أصلاً، فيركّز عمله العسكريّ المعلن إلى جانب النظام على المناطق المحاذية للحدود اللبنانية، من حمص إلى ريف دمشق، ومن هنا جاء احتفاله بمعركتي القصير ويبرود. وفي سبيل احتفاظه بما يعتبره شريان الحياة الذي يمدّه بالأسلحة من إيران، ضحّى الحزب بالجاذبية العالية التي كان يتمتع بها بين السوريين والعرب عموماً، نتيجة صراعه مع إسرائيل، ورضي بالظهور كرأس حربةٍ طائفيّ، بعد أن تعامل بحذرٍ شديدٍ مع هذه المسألة لسنواتٍ طويلة، خارج لبنان على الأقلّ.
فقد رحّب الحزب بالربيع العربيّ، حتى وصلت تباشيره إلى سورية. وحينها بدأت قيادات الحزب وأجهزة إعلامه بالتصريح بأن ما يحدث في هذا البلد هو مؤامرةٌ إسرائيليةٌ وأمريكيةٌ تستهدف محور الممانعة، وسوى ذلك من شعاراتٍ واتهاماتٍ يعترف بعض المقرّبين من الحزب أنها مخصّصةٌ لاستهلاك جمهوره فحسب، بينما تثير الشعور بالإهانة لدى فصائل المعارضة السورية المختلفة.
ويبدو أن لا سبيل للحزب إلى انتشال نفسه من الثقب الأسود السوريّ، بعد أن تورّط بوحشيةٍ في دماء المقاتلين والمدنيين، مغذياً لديهم أسوأ مشاعر الرغبة في الانتقام، التي تضافرت مع ارتفاع حدّة الصراع الطائفيّ في المنطقة، ومع شعورٍ بالإحباط المديد يعمّ سنّة لبنان، مما يهدّد بمخاطر متنوّعةٍ في المستقبل المنظور، رغم استطاعة الحزب سرقة لحظةٍ من التاريخ، أنقذ فيها الأسد من السقوط حتى الآن، باحتلال مدنٍ صارت مهدّمةً ومعاديةً تماماً للنظام وحلفائه الطائفيين.