لعل الكنيسة الأرثوذكسية الروسية اضطرّت إلى وصف حرب بوتين على سوريا بالقداسة لافتقاد هذا العدوان الصريح على شعب بلدٍ آخر لأيّ تبريرٍ أخلاقيٍّ أو أيديولوجيّ. وهو نتيجةٌ طبيعيةٌ لافتقاد النظام المافيويّ الحاكم في موسكو نفسه لأيّ غطاءٍ أيديولوجيّ، واستغراقه بصورةٍ تامّةٍ في "قضيته" الوحيدة وهي التمسّك بالسلطة إلى الأبد. أي أنه، على طريقته، نظامٌ شبيهٌ بنظام الأسد الكيماويّ، يحفل سجله الإجراميّ باغتيال الصحفيين المعارضين وغزو البلدان المجاورة، إضافةً إلى تدمير مدينة غروزني على رؤوس سكانها. وقد ابتكر بوتين طريقةً فريدةً للتمسّك بالسلطة رغم أنف الدستور، وذلك من خلال تنقله بين رئاسة الوزراء ورئاسة الدولة، بالتبادل مع تابعه المخلص مدفيديف، كلما بلغ الحدّ الزمنيّ للمنصب كما ينصّ عليه الدستور الروسيّ المعمول به. إلى ذلك، لم يحرز هذا النظام الدكتاتوريّ المافيويّ أيّ إنجازاتٍ يمكن أن تسجّل له على الصعيد الاقتصاديّ أو الاجتماعيّ من شأنها أن تغطي نسبياً على دكتاتوريته وفساده. بدلاً من ذلك مارس البلطجة على الدول المجاورة التي سبق واستقلت عن الإمبراطورية السوفييتية التي طواها التاريخ قبل ربع قرن، وكان آخر أمثلتها ضمّه جزيرة القرم ودعمه للانفصاليين في شرق أوكرانيا في حربهم على السلطة المركزية في كييف.
بل بلغت به الوقاحة أنه لام التحالف الغربيّ الذي عمل على إسقاط جزّار ليبيا المعتوه معمر القذافي، بدعوى تجاوز التحالف لما سمح به قرار مجلس الأمن ذو الصلة الذي نجا، في حينه، من الفيتو الروسيّ. هذا الفيتو المشؤوم، مع شقيقه الصينيّ، رفع في مجلس الأمن أربع مرّاتٍ لحماية نظام البراميل والكيماويّ في دمشق من أيّ إدانةٍ دولية، مجرّد إدانةٍ على ما ارتكبه بحقّ سوريا والسوريين من مجازر فظيعةٍ وخرابٍ عميم، إضافةً إلى تهجيرٍ قسريٍّ شمل نصف السكان.
وتذكّرنا "قداسة" الحرب الروسية "الأرثوذكسية" على سوريا بسوابق راهنةٍ وأخرى أقدم. أما الراهنة فتتعلق بالحرب الشيعية الإيرانية-اللبنانية-العراقية-الأفغانية على الشعب السوريّ تحت شعارات "لبيك يا زينب" و"لبيك يا حسين" وما إلى ذلك من شعاراتٍ مذهبيةٍ تصبّ جام حقدها على "عدوّها السنّي" لا لشيءٍ إلا لأنه سنّيّ. استنهاض الأحقاد الشيعية الدفينة من قبل الفاشية الدينية الحاكمة في طهران، يشمل، إلى سوريا، كلاً من العراق ولبنان واليمن والبحرين وبلدانٍ أخرى، خدمةً لأحلام إمبراطوريةٍ فارسيةٍ تداعب نخبة الحكم في إيران، لكن من شأنها إشعال حروبٍ طائفيةٍ مذهبيةٍ عبر الاقليم الملتهب، قد لا تنجو منها إيران ذاتها، وهي دولةٌ إمبراطوريةٌ هشةٌ تتكوّن من تنوّعٍ عرقيٍّ ومذهبيٍّ قابل للانفجار إذا توافرت أسبابه، وهي وفيرةٌ في بلدٍ يئنّ تحت وطأة عقوباتٍ اقتصاديةٍ (لم ترفع بعد بموجب الاتفاق النوويّ الأخير) وحصارٍ اقتصاديٍّ ونزيفٍ كبيرٍ في الموارد بسبب المساهمة السخيّة في دعم نظام دمشق وحزب الله اللبنانيّ والحوثيين في اليمن والمعارضة الشيعية في البحرين، وغيرها من الجماعات الموالية لنظام الوليّ الفقيه في المنطقة العربية.
هذه الحرب الإيرانية الشيعية، أدّت وستؤدّي إلى ازدياد وزن الحركات السنّية الأكثر راديكاليةً، السلفية والسلفية الجهادية، في المجتمعات السنّية العربية، كردّة فعلٍ متشنجةٍ على الاختراق الإيرانيّ-الشيعيّ، وبخاصّة في كلٍّ من العراق وسوريا حيث نشهد صعود مظلوميةٍ سنّيةٍ محقّةٍ تحوّلت إلى حاضنةٍ اجتماعيةٍ للتطرّف السلفيّ الجهاديّ، مساهمةً بذلك في تخريب الثورة الشعبية وإجهاض أحلامها في دولةٍ ديموقراطيةٍ مدنيةٍ حديثة.
أما السابقة الأقدم لـ"لحروب المقدسة" فهي حرب جورج بوش الابن "الصليبية" على الإرهاب، في أعقاب "غزوة" الحادي عشر من أيلول 2001 التي ما زالت منطقتنا تدفع ثمنها إلى اليوم، وبضمنها المأساة السورية التي يشكل انكفاء إدارة أوباما أحد أسبابها. وهو الانكفاء الذي أعقب عهد جورج بوش بهدف إصلاح الأضرار التي تسبّب بها المحافظون الجدد. كان بوش يؤمن، من كلّ عقله الصغير، بأنه مكلّفٌ من الله بجهادٍ مقدّسٍ ضدّ الإرهاب الذي تمّت مطابقته مع دين الإسلام.
الحرب الروسية الأرثوذكسية المقدّسة على الشعب السوريّ، تضاف إلى الحرب الإيرانية الشيعية المقدّسة، لتخلق بيئةً مناسبةً لزيادة التطرّف السنيّ المقابل، ولتتحوّل أرض سوريا إلى ساحةٍ للحروب "المقدّسة". هذا الوضع ينذر بكارثةٍ يمكن تستمرّ مئة عام، ما لم نتدارك الخطر ونجد طريق الخلاص.