رغم الهدنة مع قوّات الأسد، منذ عامٍ تقريباً، لم تتحسّن الحالة المعيشية لسكان جيرود بريف دمشق. ولا زال الحصار على المدينة محكماً لا تخرقه سوى عمليات التهريب والرشاوى التي يدفعها بعض التجار لضباط الأسد على الحواجز.
لكن آمال السكان برفع الحصار، أو تخفيفه على الأقلّ، انتعشت، منذ شهرٍ تقريباً، مع الاتفاق المبرم مع النظام حول "خط الغاز". والذي يقضي بأن تسمح قوّات الأسد بمرور السلع والبضائع والمواد الغذائية، وأن تشغّل المرافق الصحية والخدمية وتزوّدها بالمواد والتجهيزات اللازمة، وأن يطلَق سراح المعتقلات والمعتقلين؛ مقابل أن تسمح فصائل المدينة لورشة الصيانة بالدخول لإصلاح الأجزاء المتضرّرة من الأنبوب الناقل للغاز إلى محطات توليد الطاقة الكهربائية الواقعة تحت سيطرة النظام. يقول أحمد، وهو مقاتلٌ في إحدى كتائب الجيش الحرّ المحلية، إنهم سمحوا لورشة الصيانة بالدخول، وإنها أصلحت الأنبوب، لكن نظام الأسد لم ينفذ أياً من الشروط التي تعهد بها، لأنه "كذاب ونحن نعرفه يكذب. لكن إذا ما طالع المسجونات وشغّل المشفى بدنا نرجع نفجّر الخط مرّة تانية". إصلاح الأنبوب وتعهدات النظام ولجنة المفاوضات هي مفردات الحديث الشاغل للناس اليوم في جيرود. يقول أحمد إنه لا يسمع سوى هذا الحديث من الناس: "تحوّلو المعتقلات على عدرا. جابوهن عالقطيفة. النائب العام جاي، والنائب العام رايح"، أو "رح يفوّتو مازوت وسلل غذائية ويشغّلو المشفى".
تبدو علامات التعب على الوجوه. ويفارق المزاج الرائق الذي تمتع به أهل جيرود كثيراً من الناس هنا. وتندلع كلّ يومٍ، في الشوارع والأسواق، ملاسناتٌ خشنةٌ قد تتطوّر إلى عراكٍ بالأيدي لأتفه الأسباب بين أشخاصٍ كانوا مضرب المثل في الهدوء و"البال الطويل". يفسّر الجميع هذه العصبية بالأهوال والآلام التي قاساها الناس خلال سنوات الحرب والجوع والحصار، وبقلة سبل العيش المتاحة، إضافةً إلى الملل والمكوث الطويل في هذا "السجن الكبير"، وخاصّةً للمطلوبين لأجهزة الأمن، وهم نسبةٌ كبيرةٌ من الشبان والرجال.
ومن مناطق سيطرته القريبة في بعض مناطق القلمون الشرقيّ يبثّ تنظيم "داعش" مشاعر القلق والتوتر لدى السكان. إذ يثير، بين حينٍ وآخر، عبر خلاياه النائمة، المتاعب لعموم الناس ولفصائل المدينة. فقد قتلت هذه الخلايا عدداً من الأشخاص بعد خطفهم، وحاولت اغتيال بعض القادة العسكريين. لكن "الحزم" الذي عاملت به الكتيبة الأمنية والهيئة الشرعية المشتبه بهم أفشل مخططات التنظيم. وخلال أشهرٍ من العام الفائت شغلت جيرود بقصّة فائق بنيان (أبو عمر)، الشيخ السلفيّ المبايع لتنظيم "داعش"، وفق ما أثبتت التحقيقات معه بعد إلقاء القبض عليه في عمليةٍ داميةٍ أودت بحياة شخصين من القوّة التي داهمت منزله. اعترف بنيان –حسب ما قالت الهيئة الشرعية التي تولت التحقيق- بتأسيس مجموعةٍ تتبع لتنظيم "داعش"، وبقتله عددٍ من الأشخاص وإلقائهم في بئرٍ خارج المدينة. واعترف أيضاً بإصداره فتاوى يكفّر فيها قادةً في الجيش الحرّ وحركة أحرار الشام وجيش الإسلام وجبهة النصرة، وهي الفصائل التي تسيطر على المدينة. ومن جملة من كفّرهم الشيخ بنيان ابن أخيه، محبّ الدين الشاميّ، الشرعيّ والقائد البارز في أحرار الشام. وتكشف حكاية الشيخ بنيان الطويلة، منذ بدايتها مع الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين أول ثمانينات القرن الماضي، ثم اعتقاله في سجون حافظ الأسد، ثم انتمائه إلى تنظيم فتح الإسلام، وتجدّد الاعتقال وتكراره في سجون بشار قبل الثورة، ثم مع تنظيم "داعش" بعد اندلاعها؛ عن أزمةٍ خاصّةٍ عاشتها جيرود تأتي في سياق أزمةٍ أوسع شهدتها مدن وبلدات القلمون الشرقيّ التي عانت لعقودٍ طويلةٍ من الفقر والتهميش والاضطهاد، مع حضورٍ طاغٍ ومباشرٍ لاستبداد الأسد ممثلاً بمواقع التشكيلات والقطع العسكرية والأمنية الكثيرة في هذا الإقليم الصحراويّ الفقير.
وجد الشيخ بنيان في الثورة فرصةً لتجديد أحلامه الجهادية الخاصّة، ولتلبية طموحه في قيادة الجهاد في جيرود، إن لم يكن في القلمون كله حسبما ينقل بعض معارفه. لكن ظهور قادةٍ شبانٍ، كان بعضهم من طلابه في حلقات تدريسه السرّية قبل الثورة، وترؤسهم فروع الفصائل المقاتلة الوليدة، هدّد أحلام الشيخ ودفعه إلى تنظيم "داعش". وبتأثيرٍ منه اندفع آخرون إلى هذا التنظيم. ويضيف أحمد نوعاً آخر -سوى الملتزمين دينياً- استقطبهم التنظيم إلى صفوفه، هم، حسب ما يقول: "السرسرية والحرامية والحشاشين". إذ يهرب بعض هؤلاء، كلما اشتدت الضغوط عليهم، إلى منطقة "ظهار الضبع" القريبة التي تسيطر عليها "داعش"، ومن هناك لا يكفّ المبايعون الجدد عن إطلاق التهديدات والتوعّد بـ"فتح جيرود".