في أحد شوارع الجسر
يستيقظ كلّ صباحٍ ليخرج إلى وظيفته الواقعة بالقرب من أحد أضخم الحواجز في مدينة جسر الشغور، عند مؤسّسة المياه. يقف حوالي الساعة والساعتين في طابورٍ على مدّ النظر، منتظراً دوره، كي يقوم جنود الأسد بالسماح له بالمرور، لكن بعد سيلٍ من الكلمات النابية وسبّ الذات الإلهية.
أبو يزن (45 عاماً) أبٌ لثلاث بناتٍ وشابين؛ أحدهما يدرس في جامعة حلب، والآخر التحق بركب الثورة المسلحة. يتقاضى أبو يزن راتباً قدره 35 ألف ليرةٍ سوريةٍ يكاد لا يكفيه هو وعائلته حتى منتصف الشهر بسبب غلاء الأسعار الذي تشهده المدينة المحاصرة، ممّا اضطره إلى البحث عن عملٍ إضافيٍّ ليستطيع أن يسدّ متطلبات أسرته.
يقول أبو يزن: "تعوّدتُ، كلّ خميسٍ، أن تقوم قوّات الأمن بإرسال دوريةٍ خاصّةٍ لجلبي من منزلي كي يسألوني عن ولدي الذي التحق بصفوف الثوار. بالإضافة إلى أنّنا نعيش رعباً لا يوصف لأننا معرّضون، في أية لحظةٍ، لدخول الأمن والشبيحة إلى المنزل لتفتيشه..".
***
لم يكن غريباً على أهل هذه المدينة، التي يرتبط اسمها بشكلٍ وثيقٍ بأحداث الثمانينات من القرن الماضي، والتي راح ضحيتها الآلاف المؤلفة من أهلها، أن تكون من أوّل المشاركين في الثورة. فقد خرجت أوّل مظاهرةٍ فيها يوم الاثنين الأول من نيسان/ أبريل 2011، شارك فيها المئات. وأخذت المظاهرات بالتمدّد والتوسّع بشكلٍ سلميٍّ حتى ضاق النظام بها ذرعاً، وسُجّلت أوّل مجزرةٍ في جمعة (أطفال الحرية)، في الثالث من حزيران/ يونيو، سقط فيها ثلاثة شهداء. وخلال تشييعهم قام جنود الأسد بتكرار إطلاق النار فارتفعت الحصيلة إلى 12 شهيداً، لتنتفض المدينة بأكملها، وتقتحمها -بعد أيامٍ- القوّات الخاصّة في جيش الأسد. وقام النظام بفرض حصارٍ خانقٍ على المدينة وأحكم السيطرة عليها، مما دفع بالأهالي إلى الخروج منها بحثاً عن رقعةٍ فيها شيءٌ من الحرية. الأمر الذي زاد من نقمة النظام عليها وأصابه بهستيريا أدّت به إلى اعتقال أيّ شخصٍ تثبت هويته أنه من جسر الشغور. ورغم ذلك ما زالت المدينة تشهد كلّ فترةٍ أحد أنواع الحراك السلميّ، من كتابةٍ على الجدران إلى توزيع البروشورات التي تندّد بممارسات قوات الأمن.
يصل تعداد سكان المدينة إلى حوالي 50 ألفاً، نزح ثلثهم، وبقي ثلثٌ معظمهم من شريحة الموظفين الذين يخافون على وظائفهم من الضياع بعد الفترة الطويلة التي أمضوها في دوائر الدولة، والثلث الأخير يقسم إلى قسمين؛ الأول إمّا أن يكون من المؤيدين للنظام، الذين أصبحت تربطهم بجنود الجيش والأمن علاقاتٌ قوية، والثاني من الذين يخافون من النزوح ومصاعبه، ومن بطش مدفعية النظام التي تصبّ حممها كلّ يومٍ بمئات القذائف العشوائية على ريف المدينة المحرّر.
وبالمقابل، يعيش المواطن داخل المدينة وضعاً معيشياً لا يحسد عليه، فأسعار المحروقات في ارتفاعٍ مستمرّ، مما انعكس على أسعار السلع الغذائية. بالإضافة إلى قلّة فرص العمل، وتدهور الوضع الأمنيّ، وزيادة الضرائب على أصحاب المحلات التجارية؛ كلّ هذه الأمور أدّت بالموطن إلى التذمّر. قال أبو محمد، أحد سكان المدينة: "نعيش حالةً صعبة؛ أولاً نقصٌ حادٌّ في المحروقات، وخصوصاً مع قدوم فصل الشتاء. وثانياً الانقطاع المتكرّر للكهرباء، و قيام النظام برفع أسعارها. وبشكلٍ عامٍّ هناك ارتفاعٌ جنونيٌّ للأسعار".
واليوم، يعيش شباب مدينة جسر الشغور، كما شباب سوريا عموماً، خوفاً كبيراً بعد قيام قوات النظام بسحب الذين تتراوح مواليدهم بين 1980 و1985 إلى الاحتياط، والزجّ بهم في الصفوف الأمامية للمعارك. الأمر الذي أدّى إلى هروب عددٍ كبيرٍ منهم إلى خارج المدينة خوفاً من الاعتقال.
وما زالت المـدينة تعيش معانـــــاتها الــصامتة بانتـــظار يومٍ يحمل لها الخلاص.