منذ إعلانه "الخلافة" حرص تنظيم الدولة على إنتاج صورةٍ له تذهب في اتجاهين؛ أحدهما العنف والقسوة في التعامل مع عناصره قبل أعدائه، والآخر بناء مظاهر "للدولة" قابلةٍ للاستهلاك السريع لدى منافسيه قبل مناصريه. لكن الواقع الذي يسعى التنظيم إلى تغييره يفرض نفسه، هو الآخر، عليه، ويجعل منه عجينةً تشكّلها الكثير من الأمور.
عن طريق إصداراته أصبح الجميع يعرف أعمال التنظيم القاسية التي ربما تطال حتى عناصره، بحسب ما يسوّق. وتظهر تلك الأعمال مجرّدةً من أيّ عطفٍ أو رحمةٍ أو انكسار قلب، لتنتج في النهاية "رباطة الجأش" التي تسعى الإصدارات إلى رسمها، بدءاً من اختيار العناصر الذين يظهرون على الشاشة، مروراً بتنقل الكاميرات بين أجزاء من جسد العنصر من زوايا معينةٍ، انتهاءً بتضخيم حركاته ليظهر في النهاية "نموذجاً" يتمنى الكثيرون أن يصبحوا مثله، وتجسيداً مركّزاً للقوّة التي "لا تخشى لومة لائم". ويضاف إلى هذا النموذج (الفرديّ الجماعيّ) نموذجٌ آخر (جماعيٌّ فرديّ) يحاول تعميم الالتزام الشخصيّ الأقصى في اندفاع العناصر الذين يظهرون في المقاطع المنتقاة من المعارك.
ولهذه الصورة ما يقابلها من صورٍ على الأرض يجتهد التنظيم في إنتاجها. فالعرض العسكريّ، الذي إحدى مهامّه محاولة تطمين الأهالي إلى أن من يحكمهم يستطيع الدفاع عنهم، مهمّته كذلك إضفاء صورةٍ يعتقد قادة التنظيم أنها يجب أن ترافق أيّ دولة، بسبب تأثير مظاهر الدول فيهم. وينسحب هذا التحليل على الكثير من أعمال التنظيم؛ كالإعلان عن نيّته سكّ عملةٍ خاصّة، ولوحات بعض السيّارات الموسومة بعبارة "دولة الخلافة". ويندرج ضمن هذا أيضاً سعي متحمّسين للتنظيم إلى إضافة مظاهر رمزيةٍ أخرى، كصورة جواز سفرٍ كتب عليه: "حامل هذا الجواز تسير له الجيوش لو مسه ضرر"، والإشاعة (المستوحاة من مسلسلٍ سعوديٍّ) التي يتداولها البعض عن أطباء نفسيين يعرض عليهم التنظيم "الملحدين" قبل إصدار حكمه عليهم. بالإضافة إلى التركيز على تصدير صور التفاف الأهالي حول العناصر والأمراء في الأسواق أو أثناء توزيع الزكاة، وغيرها الكثير.
لكن كلّ ذلك لا يعدّ شيئاً أمام الواقع الذي شكّل التنظيمَ بقالبه، حتى أصبح بإمكان المراقب التمييز بين ما تقدّم من مظاهر تعدّ من طرح التنظيم في سياق فهمه للدولة وبين الواقع الذي أنتج التنظيمَ ووجّهه في أكثر من اتجاه. فالأهالي الذين اعتادوا الخدمات التي قدّمتها الدولة السورية لعقودٍ، ثم راحوا يقاسون من تعثر البدائل في الكهرباء والمياه والاتصالات، التي حاولت المنظمات والمجالس المحلية والقطاع الخاصّ تقديمها؛ واجهوا التنظيم بكونهم "متلقي خدمات". إلى جانب أن عناصر محليين بايعوا التنظيم كانوا قد سعوا سابقاً إلى الوقوف في وجه تراكم الفوائد الجديدة التي جلبتها الحرب في أيدي البعض، وكانت هذه إحدى الحجج التي ساقها هؤلاء لتأييد احتلال التنظيم للمحافظة منذ عامٍ ونصفٍ بالأصل.
وكما هو معروفٌ عن حياة السوريين لنصف قرنٍ مضى، يمتدّ تأثير "الدولة" في المجتمع المحليّاتٍ على نطاقٍ واسعٍ يظهر أثره اليوم على خيارات التنظيم في العديد من الإجراءات. فبتأثير أحد المهندسين الزراعيين -يتولى اليوم منصب أمير القاطع الشماليّ- تمّت إعادة تفعيل الجمعيات الفلاحية في عددٍ من القرى (سخر البعض من عدم تسميتها بالجمعيات الفلاحية الإسلامية) بكوادرها القديمة من رئيسٍ وكواديد (الكادود عامل السقاية) وغيرهم. كما كان لمتطوّعين في أجهزة الأمن السورية دورٌ في تشكيل أجهزة أمن التنظيم المحلية التي أسهم العناصر المحليون أنفسهم في توجيهها إلى اتخاذ الأمن السوريّ كنموذج.
وبسبب حاجة التنظيم إلى ضبط عناصره على الجبهات شكّل الشرطة العسكرية. ويفيد أكثر من تاجرٍ أن الرقابة والتفتيش، اللتين تلاحقان البضائع منتهية الصلاحية وتتأكدان من تسجيل الأسعار على المواد، جاءتا بسبب تعرّض عناصر التنظيم، خاصّةً من المهاجرين، للغش.
يقدّم التنظيم نفسه على أنه ممثل الإسلام "بصفائه الأوّل"، ويرى نفسه "دولةً إسلاميةً" لديها نظرةٌ محدّدةٌ تشمل كلّ جوانب الحياة. لكن أثر الواقع على عناصره، والصبغة التي تركتها أنظمة الدول التي عاشوا في ظلالها، جعلا من تنظيم الدولة على الأرض نسخةً مشوّهةً عن الدكتاتوريات التي عرف عناصره "الدولة" من خلالها.