لا يملك المرء رفاهية تجاهل ما حدث في الولايات المتحدة، يوم الثامن من الشهر الحالي، بذريعة أن المرشحين سيّان، أو أن السياسة الأميركية تجاه سوريا وقضايا منطقتنا، في العهد الجديد، لن تختلف عنها في عهد أوباما. وسواء أعجبت نتيجة الانتخابات بعضاً منا، أو تشاءم بها بعضنا الآخر، يبقى أن الولايات المتحدة هي القوة الأعظم في عالمنا اليوم، تؤثر سياساتها على جميع أنحاء العالم، وضمناً منطقتنا. والحال أن المتفائلين أو المتشائمين بفوز هذه الشخصية المثيرة للجدل، دونالد ترامب، برئاسة الدولة العظمى، يبدون اليوم كضاربي المندل، فلا أحد يستطيع فعلاً التكهن بما ستكون عليه السياسة الخارجية الأميركية في عهده. ويعود ذلك إلى أنه قادمٌ إلى البيت الأبيض من المجهول، بالمعنى السياسيّ، أي «من خارج المؤسّسة الحاكمة الأميركية» كما يشيع القول ويتكرر.
مع ذلك تمكن المحاججة بالقول إن «المؤسّسة» وجدت لامتصاص أي عنصرٍ دخيلٍ عليها و«قولبته» وفقاً لمقتضيات المصالح القومية العليا للدولة الأميركية. لكن المحاججة المضادة لا تخلو، بدورها، من الوجاهة: فإذا أضفنا الصلاحيات الكبيرة جداً للرئيس في النظام الرئاسيّ الأميركيّ، إلى فوز الحزب الجمهوري (حزب الرئيس الجديد) بغالبية المقاعد في الكونغرس بمجلسيه، بات توقع تغييراتٍ كبيرةٍ في «المؤسسة» نفسها، أو أولوياتها، ليس من باب الخيال.
فإذا ركزنا السؤال على التغييرات المحتملة في السياسة الخارجية، لحقه سؤالٌ أهم: أيّ تغيير؟ أو في أيّ اتجاه؟ فليس ثمة ما يمنع من توقع تغييرٍ نحو الأسوأ في السياسة الأميركية الجديدة في سوريا مثلاً، وهو ما يهمنا أكثر كسوريين بطبيعة الحال. خاصةً بعدما اعتدنا توقع الأسوأ فالأسواء باطراد. فإذا قام التحليل، بصورةٍ أساسية، على تصريحات ترامب الإعلامية، أثناء الحملة الانتخابية وبعيد فوزه، فلا بد أن ينتهي إلى تشاؤمٍ كبير. فهذا الرجل الجاهل يعتقد، مثلاً، أن نظام بشار الأسد يحارب داعش، ويعتبره، لذلك، «أفضل من البديل المحتمل الذي لا نعرف عنه شيئاً» على قوله في أحدث المقابلات الصحفية معه. كما لم يخفِ ترامب المرشح إعجابه بزميله الروسيّ فلاديمير بوتين الذي تحارب قواته دفاعاً عن الأسد. بل هناك ما هو أسوأ: يظن الرئيس المقبل للولايات المتحدة أن سياسة أوباما في سوريا كانت سيئةً لأنها استهدفت إسقاط بشار الأسد!
حين يستقر ترامب في البيت الأبيض، وينتهي من تشكيل إدارته، ربما سيساعده مستشاروه في فهم «المشكلة السورية» بتعقيداتها الكبيرة، فيكتشف أن الحفاظ على نظام الأسد كان جوهر سياسة أوباما السورية، فإما أن يبقيها كما هي، أو ينظر في البدائل الممكنة بما ينسجم مع سياسته الأوسع تجاه الإقليم.
وفي هذه النقطة هناك إجماعٌ لدى المحللين أن السياسة الأميركية تجاه إيران هي المرشحة، أكثر من أيّ موضوعٍ آخر، للتغير. فموقف ترامب معلنٌ تجاه الجمهورية الإسلامية وحزبها اللبنانيّ، كما تجاه الاتفاق النوويّ معها، وهو لا يقتصر على تصريحات الحملة الانتخابية، بل يتقاطع مع انتقادات قسمٍ مهمٍ من «المؤسسة الحاكمة» نفسها. وإذا كان ترامب يتحدث علناً عن نيته إلغاء الاتفاق النوويّ الذي أبرمه أوباما، العام الماضي، وبمشاركة البريطانيين والفرنسيين والروس والألمان، مع إيران، فلا يُستبعَد أن تضغط إدارته باتجاه ضبط النشاط الإيرانيّ التوسعيّ العدوانيّ في الإقليم مقابل استمرار الاتفاق النوويّ مع تعديلاتٍ عليه.
النقطة الثانية المهمة في السياسة السورية المتوقعة لترامب هي الحرب على داعش في العراق وسوريا. وهي ليست ببساطة العقل السياسيّ لدونالد ترامب. فإذا كانت الصيغة الأوبامية لهذه الحرب اختصرت كل المشكلة السورية فيها، بحيث كان شرط محاربة داعش هو عدم التعرّض لنظام الأسد وحلفائه، فلا شيء يمنع من تغير هذه الصيغة إلى أخرى أكثر تركيباً: كثيرٌ من المحللين الأميركيين والمؤسّسات البحثية الفاعلة، سبق وتوصلوا إلى نتيجةٍ مفادها أن محاربة داعش لن تكون مجديةً ببقاء نظام الأسد.
وهنا يدخل العامل الروسيّ: فالغزل المعلن بين بوتين والمرشح ترامب يفترض أن الأخير لن يصطدم مع الروس في سوريا. ولكن هنا أيضاً ثمة وجاهةٌ للمحاججة: ألم تكن سياسة أوباما السورية هي التي شجعت الروسيّ على الذهاب إلى النهاية في دعم النظام في الصراع السوريّ؟ ألا يحتمل أن الروسيّ سيغير سياسته هذه وفقاً للبوصلة الجديدة في واشنطن؟
كل هذه تبقى في باب التكهنات، فلا أحد يملك غيرها.
بالنسبة لنا، كسوريين، يجب أن ننظر إلى التغيير الذي حدث في الولايات المتحدة كدرس: بصرف النظر عمن يحكم في واشنطن، علينا تطوير سياسةٍ وطنيةٍ تأخذ في الاعتبار الجديّ واشنطن وغيرها من العواصم الفاعلة في صراعنا السوريّ، من غير الارتهان المطلق إلى إحداها أو عددٍ منها.