اللحظة الوطنيّة التي احتاجت زلزالاً

قافلة مساعدات من دير الزور تصل إلى الشمال السوري

لم يكد ينتصف يوم الإثنين السادس من شباط 2023، حتى بدأ الوعي السوري الجمعي يدرك أن ثمّة كارثة كبرى حلّت على البلاد، التي تعيش كارثة أصلاً منذ أكثر من عقد، وعلى ناسها الذين يتوزّعون في أصقاع الأرض وفي جعبة كلّ منهم آثار هزيمة وخسارات فادحة.

تقاطرت صور وفيديوهات الزلزال المدمّر الذي ضربَ سوريا وتركيا دقيقةً إثر دقيقة، مع انقطاعٍ تام لوسائل الاتصال عن غالبية المناطق المتضررة في اليوم الأول. وظلّت المعلومة المؤكّدة الوحيدة أنّ هنالك كارثة.

عاد الخبر السوري ليحتل الفضاء العام في العالم بأسرهِ، بعد أن صار هامشياً وثانوياً لسنوات طويلة، وانقسم السوريون لا سياسيّاً هذه المرّة: قسم يعيش في المناطق المتضررة، نجا أو يحاولُ النجاة، وقسم آخر كان له أقارب وأصدقاء في إحدى هذه المناطق ويسعى لإيجادهم أو معرفة أيّ معلومة تخص مصيرهم.

وبما أنّ الموت لا يُخيف الموتى، فإن القسم الأكبر ممن بقي من السوريين كانَ يعيش رهاب الموت العميم الذي تصدّره الشاشات والهواتف المحمولة. استغرق الأمر يوماً أو اثنين حتّى بدأت تتبدّى ملامح الكارثة، وأمام الهول استُرجع السؤال الكبير بعد أن غيّبهُ اليأس والخذلان ويقين اللا جدوى: ما العمل؟!

بدا واضحاً أمام حجم الضرر أن السوريين يحتاجون إلى كلّ شيء. ليس بسبب وهم الاعتقاد بمركزيّة قضيّتهم، إنما لإيمان معُلن عند من يعيشون خارج سيطرة نظام الأسد، ومُضمر عند من يعيشون تحت قبضته، أنّ النظام لن يقدّم حلولاً واستجابات سريعة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. أدركوا أن الوقت عدوّهم الأول، واستشعروا -جميعاً هذه المرّة- أنهم لوحدهم في مواجهة الزلزال، وانضووا في لحظة واحدة تحت راية الفزعة!

بعد يوم الصدمة الأول، وخلال الأيام التي تلت سُيّرت قوافل باصات من المناطق التي نجت من الزلزال باتجاه حلب ومدن وبلدات الساحل المتضررة. أعلن الآمنون عن استعدادهم لتقديم مأوى كريم للمتضررين، سخّر الجرّاحون إمكاناتِهم وأجروا العمليّات بلا مقابل، فتح الأطباء عياداتهم وأعطى الصيادلة أدوية للمرضى وحليباً للأطفال مجاناً، قدّم المهندسون خدمات استشارية تخص المباني المتضررة وإمكانية العودة إليها، أرسل المزارعون من منتجاتهم الزراعية ودفع التجار أموالاً لمبادرات الإغاثة الأهلية، أرسلت النسوة قطرميزات المكدوس والمخلّل التي استغرقت في صناعتها أياماً، أرسلن أيضاً اللحف وفرشات الصوف التي كنّ يحملنها في زفافهنّ قديماً إلى بيوت الأزواج. تلك الثروة التي لطالما اعتُدّ بها.

وفي حين كانت الأمم المتحدة قد أدخلت أربع عشرة شاحنة إغاثية إلى سوريا، كان السوريون قد أرسلوا مئات الشاحنات والسيارات الإغاثية إلى المناطق التي يُمكنُ الوصول إليها، المُدن الواقعة تحت سيطرة النظام أرسلت مساعداتها إلى حلب وحماة ومدن الساحل، بينما أوصل عشائرُ وسكّان دير الزور والرقّة والحسكة والقامشلي ما يفوقُ مائتي شاحنة من المساعدات العينية لضحايا الشمال السوري الخارج عن سلطة الأسد.

جاء رجلٌ مُسنٌّ إلى أحد مستشفيات مدن الساحل السوري لا يحمل في يده شيئاً، وحين سُئلَ عن سبب مجيئه قال إنّه جاء "ليسلّم نفسهُ" للمستشفى، وبصوت مرتجف قال: قطّعوا من جسمي ووصلوا للمصابين البريئين.. أنا قربان سوريا.

أطلقت مساجد المخيّمات والمناطق الخارجة عن سيطرة النظام في الشمال السوري حملات تبرّع للمتضررين جمعت خلالها عشرات آلاف الدولارات. دخلت طفلة إلى مسجد فاطمة الدملخي في بلدة عقربات وتبرّعت بحصّالتها الصغيرة، ورفضت طلب شيخ المسجد بالعدول عن الفكرة.

المُهجّرون والمنفيّون السوريون صار اسمهم مغتربين. استفاق منهم من أكلهم اليأس، أولئك الذين يقضون أيامهم في منافيهم بلا أيّ إحساس بجدوى وجودهم، ولم تستطع الحياة الحديثة التي يعيشونها أن تزيل الآثار النفسية للهزيمة التي مُنيت بها حيواتهم القديمة. استطاعوا بجهود جبّارة تحمّل المسؤولية وحشد محيطهم وإمكاناتهم من أجل تقديم العون؛ منهم من اكتشف أنّ خطوط الهاتف في مدن مثل أنطاكيا تعمل إذا كان الاتصال خارجياً فحسب، فأعلن الاستعداد لطمأنة الناس عن ذويهم الذين يعيشون في تلك المدن، ومنهم من استطاعوا تنظيم حملات تبرّع ضمن أماكن عملهم، وغير ذلك الكثير من أشكالِ الدعم والمؤازرة.

ولئن كان الموقف السياسي عاملاً أساسياً في تقديم العون الإنساني بين السوريين خلال العقد الأول من الثورة، فإنّ الزلزال الذي لا هويّة لمُسبّبه، خلق شعوراً بدائياً لدى السوريين: شعور الجنس البشري في مواجهة الطبيعة، التي لا يُمكن لأحد أن يقوى على معاداتها، وكل ما يمكن فعله هو التكاتف لتخفيف الأضرار الناجمة عن جبروتها.

أخوّة الجنس البشريّ تلك ولّدت لحظة وطنيّة خاصة لم يحظَ السوريون بمثلها منذ بداية الثورة عام 2011، ولعلّها كانت أكثر صدقاً نظراً لانتفاء الخلاف على المسبّب: لم يسأل أحد عن هويّة الضحايا السياسية والدينية والجنسية، كان ثمّة رغبة جامعة بالاحتفاء بالسلوك الإيجابيّ، وتحييد السلوكيّات المشينة التي تُظهرها النوائب عند البعض، مثلما تُظهر نقيضها عند الغالبية. وعلى الرغم من انتشار صور ومقاطع فيديو لبسطات تبيع بضائع ومواد إغاثية كانت قد وصلت من دول عربية إلى مناطق سيطرة النظام، وما يعنيه ذلك من أنّ أزلام النظام يبيعون المساعدات التي تصلُه قبل أن تُكمل طريقها إلى من يستحقّها، بالإضافة إلى قرار سلطة الأمر الواقع في دمشق حصر تقديم المساعدات بالمرور عبرها، ووصول الأمر إلى اعتقال بعض الأشخاص الذين يقدّمون العون بمبادرات فردية كما أكد شهود في الداخل- إلّا أنّ هذا كلّه لم يأخذ مساحة كبرى من المتداول لدى السوريين.

صار النظام هو الهامشيّ في اللحظة الوطنيّة الفارقة، صار أصغر من الهويّة الجامعة، وبدا التحالف أكثر وضوحاً: النظام وأهله حلفاء الزلزال والكارثة، وبقية السوريين حلفاء الضحايا والمتضررين.

كأنّ السوريين احتاجوا إلى أي شيء يجمعهم في خندق واحد، وإن كان خندقاً لدفن الموتى. ولكأنّ معجزة وجودهم في مكان واحد وعلى هدف واحد، كانت ترقى إلى المستحيل، وتحتاج إلى أن تُحدث زلزالاً بهذا الحجم!

لحظة وطنيّة خالصة تنتظر من يستطيع الاستفادة منها.