القمع الذي تتعرض له أقلية الإيغور المسلمة في الصين

دافيد بروفي*
أيار-عن مجلة Jacobin الأميركية **
ترجمة مأمون الحلبي

باسم محاربة التطرّف الإسلامي، شرع الحزب الشيوعي الصيني بشن حملة اعتقالات ومضايقات كبيرة بحقّ الإيغور في إقليم شين جيانغ

ما زال الاهتمام الدولي بمسألة إقليم شين جيانغ، واضطهاد الدولة الصينية سُكانه الأصليين من الإيغور، أقلّ مما هو عليه في قضية إقليم التيبت، التي تحظى بدعاية واسعة. مع ذلك يحظى إقليم شين جيانغ، الذي يُسميه كثير من الإيغور تركستان الشرقية، بأهمية أكثر من إقليم التيبت كأولوية في توجّهات الحزب الشيوعي الصيني.

باسم محاربة التطرف الإسلامي، شرع الحزب بشن حملة اعتقالات وتلقين عقائدي كبيرة بحقّ الأقليات العرقية. هدف هذه الحملة استئصال أي شكل من أشكال المعارضة نهائياً، وتحويل هذه الأرض الواسعة (1650000كم مربع) إلى منصة يُمكن انطلاقاً منها توسعة "مبادرة الحزام والطريق" والهيمنة على آسيا الوسطى.

ظهور شبكة جديدة من معسكرات إعادة التربية والتعليم في شين جيانغ بقي أمراً سرياًّ نوعاً ما لبعض الوقت، لكن الأبحاث والتقارير الإعلامية تُقدم لنا شهادات قاسية عن نطاق وحجم هذه السياسة الجديدة. منذ منتصف عام 2017 أخذت تظهر تشكيلة من مراكز الاحتجاز والسجون يبلغ عدد نزلائها مئات الألوف. وتَجمع هذه المعسكرات بين الكثير من الفظائع الوحشية لنظام "إعادة التربية من خلال العمل" الأقدم وبين أحدث آليات المراقبة والرصد، ذات التكنولوجيا المتطورة.

بدون أن توجه إليهم أي اتهامات، يجد المحتجزون أنفسهم (معظمهم من الإيغور، لكن هناك بعض الكازاخستانيين) مقطوعين عن العالم الخارجي لفترة زمنية غير محددة، وتحومُ الشبهات بسهولة حول أولئك الذين يُبدون علامات التقوى الدينية الزائدة، أو لهم اتصالات مع الخارج، لكن النطاق أوسع من ذلك بكثير. فحتى تكلم اللغة الصينية بشكل رديء يبدو كافياً لأن يُحتجز المرء. الأقل حظاً من المحتجزين يجدون أنفسهم عرضة لحفلات الضرب والتحقيقات اليومية، أما المعتقلون المحظوظون فيُكابدون جلسات النقد الذاتي الروتينية وتكرار الشعارات الوطنية المملة. نزع الولاء للإيمان الديني والهوية القومية يُشكل حيّزاً بارزاً في هذا المنهاج.

 المعسكرات تتويج لسلسلة من التوجهات القمعية، تحديثات أدخلها شين كوان غو، سكرتير الحزب، منذ وصوله إلى شين جيانغ العام الماضي: أقسام الشرطة عند كل تقاطع هام، الحواجز الأمنية المنتشرة في كل مكان، والتي يمرّ بها الصينيون دون عقبات في حين يصطف الإيغور في طوابير من أجل التفتيش المُذِل، الرجال والنساء الكهول يمشون بتثاقل في الشوارع في تدريبات مكافحة الإرهاب، عمليات البث التلفزيوني والإذاعي التي تهيب بالإيغور أن يحبّوا الحزب ويلوموا أنفسهم على مكانتهم كدرجة ثانية.

شاهدت رجال شرطة يتنكبون بنادق آلية، يُوقفون شباناً إيغور في الشوارع لكي يتحققوا من أنهم يضعون في هواتفهم النقالة القطع التي تُوزّعها الحكومة بغرض التحكّم والمُراقبة. بعض الشبان تخلّصوا من هواتفهم الذكية لئلا يودي بهم فيديو كليب متطرف أو رسالة نصية إلى السجن.

أكثر من أي وقت مضى، منذ إلحاقه بالصين الشعبية، يُشبه إقليم شين جيانغ في وقتنا هذا أراضٍ محتلة. وتكشف سياسات الحزب عن نظرة شاملة إلى الإيغور بصفتهم عدواً داخلياً. إن مجرد وجود الإيغور في أرضهم هو تذكير غير مريح بالهوية البديلة لإقليم شين جيانغ بصفته الطرف الشرقي للعالم الإسلامي

-تذكير تود بكين امحاءه لو استطاعت.

من المحتمل أن الحزب لا نية لديه، حتى الآن، للقضاء مادياً على الإيغور، لكن مساعيه في تهميش لغتهم وإعادة كتابة تاريخ الإقليم يخدم أهدافاً مشابهة لسياسة التطهير العرقي. كيف أمكن لدولة ثورية أتت إلى السلطة مع وَعدٍ بإنهاء كل أشكال التمييز القومي أن ينتهي بها المطاف باللجوء إلى سياسات فظيعة من هذا النوع؟ وماذا، إن كان بالإمكان فعل أي شيء، بوسع أولئك الموجودين خارج الصين أن يفعلوا ليقلبوا الأمور؟

تبدأ حكاية سيطرة بكين على إقليم شين جيانغ في خمسينيات القرن الثامن عشر أثناء حكم سلالة "كينغ". لأكثر من قرن مارس الصينيون في شين جيانغ شكلاً من الحكم غير المباشر، الذي كانت تطيح به بشكل متقطع تمرّدات محليّة للسكان المسلمين، وقد اعتاد كثيرٌ من القوميين الإيغور الإشارة إلى ثمانينات القرن التاسع عشر، التي أصبحت شين جيانغ حينها إحدى أقاليم الإمبراطورية، كنقطة البداية الحقيقية للاستعمار الصيني. قام الإيغور بمساعي من أجل الحكم الذاتي أثناء حكم الجمهورية الصينية، من 1912 إلى 1949.

في عشرينيات القرن الماضي، وأثناء دفع الأممية الشيوعية الأوسع نطاقاً نحو الثورة في العالم الإسلامي، اهتم البلاشفة بفكرة تحويل شين جيانغ إلى جمهورية سوفيتية، لكن عندما تراجع المدّ الثوري هيمنت مصالح الدولة السوفيتية في آسيا على شكل معالجتها لمسألة شين جيانغ، ومنعتها من تقديم تضامن حقيقي للإيغور. وفي الثلاثينيات، أدت ثورة واسعة النطاق إلى إقامة جمهورية شرق تركستان الإسلامية، لكن موسكو فضّلت الاصطفاف مع الحكم الصيني وساعدت على قمع هذه الجمهورية. في الأربعينيات، أعطى ستالين الضوء الأخضر لثورة في غرب الإقليم أقامت ما يُعرف بجمهورية شرق تركستان الثانية. لكن أولوية ستالين الوحيدة كانت المحافظة على الهيمنة الاقتصادية والسياسية في المنطقة، فانتهت الجمهورية عندما أبرم ستالين اتفاقاً مع ماوتسي تونغ يسمح بموجبه لجيش التحرير الشعبي بالسيطرة على شين جيانغ عام 1949.

عندما وصل الحزب الشيوعي الصيني إلى شين جيانغ عام 1949 كان قد تخلى عن التزامه بحق تقرير المصير القومي، فَعَرَض شكلاً مصغراً من "الحكم الذاتي"، وبتسويقه لرؤية صين أكثر مركزية كان على الحزب أن يُطَهِر أولئك الشيوعيين الإيغور الذين كانوا يُماطلون من أجل شيء أكثر أهمية مثل "جمهورية إيغورستان السوفيتية".

عندما حصلت لبرلة محدودة في الثمانينيات، اغتنم الإيغور الفرصة لاختبار حدود النقاش المسموح به، فقام النشطاء بإطلاق حركة طلابية جنينية. مع نهاية الثمانينيات كان مناصرو الاعتدال قد خسروا المعركة داخل الحزب، وتم فقدان أدنى إمكانية لمعارضة إيغورية منظمة وسط حالة القمع التي طالت كل أنحاء الصين عام 1989. ومع سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991 تعمّق التراجع إلى سياسات الخطّ المُتشدّد، منذ ذلك الحين كان الحلّ الوحيد لدى الحزب لمعالجة سخط الإيغور تشديد سيطرته الإيديولوجية وانخراطه في عمليات عقابية دورية.

بعد أحداث 11 أيلول في الولايات المتحدة، أعادت الصين صياغة حملة الخطّ المتشدّد ضد النزعات الانفصالية ضمن "الحرب على الإرهاب" العالمية، وبهذا توصلت إلى ما يُشبه الاتفاق مع واشنطن. حصلت أعمال عنف متفرقة ذات طابع إرهابي في شين جيانغ وأماكن أخرى في الصين حصدت أرواح صينيين عاديين، لكن مقاومة الإيغور في شين جيانغ غير منظمة وغير عسكرية أكثر بكثير من ما تريدنا الصين أن نعتقد. طالت حملة "الحرب على الإرهاب" الصينية حتى أعضاء الحزب، ذوي الأصوات النشاز نوعاً ما كأستاذ الاقتصاد إلهام توهتي، الذي حكم عليه بالسجن مدى الحياة قبل 4 سنوات لانتقاده تهميش الإيغور في شين جيانغ.

من الصحيح أن بعض الإيغور اليائسين انخرطوا في صفوف المليشيات الإسلامية في سوريا والعراق على أمل اكتساب التدريب العسكري والتضامن الجهادي العالمي الضروريين، من وجهة نظرهم، لمعركة في شين جيانغ، لكن استراتيجية الحدّ الأقصى هذه لا تفرض أي تهديد على بكين، وبالتأكيد لا تبرّر عمليات القمع الحالي، فالصين تحافظ على قبضة خانقة على نقاط الدخول والخروج من شين جيانغ، لذا الدولة فقط هي من يستفيد من وجود المُتشددين الإيغور في أرض المعركة القصيّة.

الشهر الماضي أعاد السيناتور الأميركي ماركو روبيو قضية الإيغور في السياسة الأميركية الصينية، بقيامه بتدخل علنيّ بخصوص معسكرات إعادة التربية. بعض الإيغور، وربما الكثيرون منهم، سيرحّبون بتدخل روبيو، فهم يعتقدون أنهم ضحايا الشيوعية كونهم عالقين بين دولتين قمعيتين كبيرتين كانتا تصفان نفسيهما أنهما شيوعيتان. قسمٌ كبير من اليسار العالمي كان يُؤيّد فكرة أن الاتحاد السوفيتي والصين كانا نموذجين للاشتراكية الحية، لذا كان لزاماً الدفاع عنهما بأي ثمن. ولأنهم كانوا دون أي أصدقاء من طرف اليسار، فقد كان من الطبيعي، بالنسبة للإيغور الذين في المنفى، أن يميلوا للانجذاب لليمين المُعادي للشيوعية. المأساة هو أن هذا الأمر قد جعل من السهل جداً بالنسبة لبكين أن تصور سخط الإيغور كنتاج لمؤامرة غربية معادية. هذا السلوك من قبل بكين انتهازي وانتفاعي، لكن لسوء الحظ مُقنعٌ لبعض الصينيين. على الحكومات الأجنبية بالطبع أن لا تتردد بانتقاد سوء معاملة الصين لأقلياتها، لكن السيناتور روبيو مضى أبعد من الانتقاد، بربطه العلني محنة الإيغور بأهداف الولايات المتحدة في آسيا.

ليس لدى القادة في الغرب وخز ضمير حول معاملة المسلمين كإرهابيين أكثر مما لدى المسؤولين الصينيين في شين جيانغ، هذا هو المبدأ الذي يُشكل أساس الحظر على المسلمين الذي سَنَّه ترامب، وهي سياسة ما زال يُقاتل من أجلها في المحاكم الأميركية. وهذا المبدأ يُشكل القلب في دفاع إسرائيل عن مجزرتها في غزة.

على الناس الذين يدافعون عن قضية الإيغور، أن يتخذوا موقفاً قوياً ضد المعاملة التي تجرد المسلمين من إنسانيتهم، هذه المعاملة التي يُمارسها الغرب وحلفاؤه.

 

*دافيد بروفي محاضرٌ مرموق في التاريخ الصيني الحديث في جامعة سيدني/ أستراليا
**Jacobin مجلة أميركية تهتم بقضايا التحرر الإنساني