جدرانٌ عتيقة، سقفٌ مُقبّب، وأعمدةٌ خشبية؛ عبقٌ يحيلك إلى زمنٍ غير هذا الزمن، إنه السوق المقبي في دير الزور، ذاك المكان الذي تتبع فيه أثر كل زائرٍ للمدينة أو مقيمٍ فيها، عبث به الزمن والعوامل الجويّة أمام عين السلطة القائمة قبل الثورة. ثم بكاه أبناء المدينة وهم يرون أجزاءً كثيرةً منه تنام نومتها الأخيرة على الأرض، وقلةٌ منهم كانوا يعون تاريخه وأهميته والإهمال الذي لاقاه خلال عقودٍ من الزمن.
"عين المدينة" حاولت التعريف به وهو يقف - أو ما تبقى منه - وسط النار محاطاً بالركام والدم. التقينا بالمهندس المعماريّ ثائر عابد عبد الهادي، أحد المهتمّين بتراث المنطقة، فأفادنا بالقول: في عام 1864 عين السلطان العثماني والياً هو محمد ثاقب بيك الأورفلي، وهو أول والٍ يعيّن على لواء "الزور". ووجد هذا الوالي أن اللواء - في حالته التي كان عليها - يحتاج إلى عمالٍ يجيدون فن العمارة، فاستقدم من الموصل نجارين وبنائين، وأمر ببناء مسجد السرايا، وعلى محاذاته المحكمة البدائية الأولى، وكذلك أمر ببناء السوق الميري - سوق الحبوب - وانتهى بناء الكتلة التي تضمّ بقية الأسواق التي تميزت بسقفٍ هو عبارةٌ عن قبوٍ سريريٍّ مستمرٍ ذي عقدٍ مدبب، ومادته من الحجر والطين، مزودٍ بفتحاتٍ خاصةٍ لتأمين الإنارة والتهوية.
وحــول أهـــم الأســــواق التي يتألف منها أضاف:
سوق العطارين: وأهم الأسماء التي مرّت عليه من الجيل الأول الحاج عبد الفتاح آل فخري ورشيد الركاض، ومن الجيل الثاني حميد النجم وعبد القهار ركاض وطه السارة وعبد السلام آل فخري. ويضم السوق الأعشاب الطبية والعسل والتمر والزيوت والحنة والتوابل والصابون بأنواعه وخيوط القطن والليف، حتى تاريخ إغلاق هذا السوق بعد بدء القصف على المدينة.
سوق التجار: الذي ينتهي بالبوابة العثمانية، ويتصل بسوق القصّابين من الجهة الشمالية الغربية، وبسوق عكاظ من الجهة الشرقية، ويتصل غرباً بسوق الحبال. ويعدّ هذا السوق من أكثر شبكة الأسواق نشاطاً، إذ يتمّ فيه تصريف كمياتٍ كبيرةٍ من السمن البلدي والصوف، ويحتوي على الملابس الجاهزة والأحذية والحقائب، بالإضافة إلى الملابس المصنوعة من الفرو والصوف بشكلٍ يدويّ.
سوق الحدادين: وهو سوقٌ يحتلّ مكاناً قريباً من السوق المقبي، ولذلك يعتبره الناس جزءاً منه. هدم هذا السوق عام 1936، ورفض رئيس البلدية آنذاك "الحاج فاضل" أن يعاد إعماره في المكان نفسه، بحجة الرغبة بتوسيع الساحة العامة التي يحاذيها السوق، إلا أن وفاة هذا المسؤول دفعت الحدّادين إلى محاولة الحصول على رخص إعمار السوق من جديد. وفي هذا السوق، الذي يرتبط بكتلة الأسواق بسوق الحبال، تجد العديد من الأدوات التي لا تجدها في غيره، مثل الحشاشة التي تستخدم لجز العشب والمنجل والكريك وسرير الأطفال والفأس والسكاكين.
ويتميز هذا السوق عن غيره بأن أرباب المصلحة فيه كلهم من آل العليوي، وعلى رأسهم كان أحمد سعيد الكجيجة، الذي ظل يعمل في السوق حتى وفاته عن عمر ناهز التسعين عاماً.
ومن الجدير بالذكر أن هذا السوق يضم محلاً لا يمكن لأيّ شخصٍ أن يمرّ به دون أن يعرّج عليه، وهو محل الحاج مزعل، والذي تنسب إليه "دلال مزعل" الشهيرة، تلك الدلاء الخاصة بالقهوة المرّة، والمصنوعة من قطعةٍ واحدة، وكانت لها شهرةٌ كبيرةٌ في سوريا كلها، ولم يتمكن من اقتنائها إلا الأشخاص الذين يتمتعون بمكانةٍ مرموقةٍ اجتماعياً، كشيوخ العشائر مثلاً. وقد بقي حفيد مزعل، علي إسماعيل المزعل، يحافظ على مهنة جدّه حتى الأيام الأخيرة قبل إغلاق السوق وتشريد أهالي المدينة بسبب القصف العشوائي.
سوق عكاظ: ويقع بين سوق التجار يميناً وسوق العطارين شمالاً. وكان يسمى أيضاً سوق بغداد، لأن معظم بضائعه كانت تأتي من هناك. ويتألف السوق من 40 محلاً تختصّ بتجهيز العرائس، إذ كانت العروس تحضر إلى السوق فتجد فيه كل ما تحتاج من مستلزمات. وقد تغيرت نوعية البضائع بحيث تناسب ذوق أبناء الريف، الذين صاروا في السنوات الأخيرة هم الأكثر تردداً عليه. وبالإضافة إلى الأقمشة دخلت إلى السوق الملابس الجاهزة والبطانيات والسجاد.
سوق السلاح: وهو السوق الذي يقع بين سوق القصّابين وسوق الحبال. ولم تكن هذه المهنة موجودةً بشكل واضحٍ في السوق قبل دخول إبراهيم باشا إلى سوريا، فقد ارتبط نشوء هذه المهنة وتطورها بتلك الحملة التي قام بها على بلاد الشام. وكانت هذه المهنة تسمى أيام الاحتلال الفرنسي السمكرة، وأيام العثمانيين كان يطلق على العاملين فيها اسم السقمقجية.
كان النشاط فيه مرتكزاً على إصلاح الأسلحة البيضاء، ثم تحول إلى إصلاح الأسلحة النارية، وظلّ قائماً رغم أن نشاطه تراجع بشكلٍ كبيرٍ جداً في العقدين الأخيرين.
وكان معظم العاملين في السوق ينتمون إلى عشيرة البوكسار. ومن أشهر من مرّ عليه الحاج صالح الحمود الملقب بالمختار، والسيد طه العزاوي وحج قدور الطعمة والسيد يوسف العزاوي.
سوق النجارين: وهو السوق الذي يقع في آخر شبكة الأسواق، كامتدادٍ لسوق الحبوب باتجاه الساحة العامة، حيث تقطع هذا الامتداد نهاية سوق التجار لتفصل بين السوقين. وربما يعدّ هذا السوق هو الأكثر حميميةً بالنسبة لأهالي المدينة، فمن يدخل إليه يشعر وكأنه عاد بالزمن عدة عقودٍ إلى الوراء، أو أنه دخل متحفاً دون أن يعي. ولا غرابة في ذلك، إذ إن معظم الأدوات المصنوعة في هذا السوق موجودةٌ في متحف الفنون والتقاليد الشعبية القريب من السوق المقبي، مثل العبّارة والأسرّة الخشبية بأنواعها والمخمر.
سوق الحبوب: وفي هذا السوق كان يتم تصريف محصول القمح والشعير اللذين كان يتم شراؤهما من ريف دير الزور ومن الميادين والبوكمال ومن الحسكة والقامشلي أيضاً. كما كان هذا السوق يعتمد أيضاً على تجارة الصوف الذي يشترى من ريف دير الزور ومن الرقة ويتم تصريفه في حماة. كما يتميز السوق بوجود محلٍّ للأحذية يقارب عمره 100 عام، هو محلّ السيد دحام شاكر المصطفى، والذي يعرف حتى اليوم كأشهر محلات السوق.
سوق الحبال: ويقع في الجزء الغربيّ من شبكة الأسواق القديمة، ويتصل يميناً بشارع الجسر، ويساراً بسوق عكاظ. ويتمّ فيه بيع العديد من مستلزمات البدو والريف التي تتعلق بالترحال، مثل بيت الشعر والجوادر والأوتاد، بالإضافة إلى الحبال بجميع ألوانها وأحجامها وأشكالها. وقد تراجع نشاطه كثيراً في السنوات الأخيرة بسبب الظروف المناخية السيئة وتراجع الثروة الحيوانية عموماً، فبات يقتصر على مجموعةٍ صغيرةٍ من المحلات تغيّر نشاطها التجاريّ مع الزمن، فصار يحوي بضائع أخرى لا علاقة لها بنشاطه الأصليّ. ومن الجدير بالذكر أنه بالقرب من هذا السوق كانت هناك مجموعةٌ من المحلات لتبييض النحاس كان الناس يحضرون إليها أوانيهم النحاسية قبل أن تندثر هذه المهنة في هذا السوق، ويتم في العام 2009 إغلاق آخر محلٍّ فيه يختصّ بها.
عن تدمير جزءٍ من السوق المقبيّ حدثنا الشاب (م. ن): عملت في السوق المقبي مع والدي منذ أن كنت في الخامسة من عمري. حين علمت أنه تمّ تدمير جزءٍ منه، وشاهدت صور الدمار بعد ذلك، شعرت أن أحدهم قد طعنني في صدري. عمري كله ضاع تحت ذاك الركام. شكرت الله أن والدي توفي قبل ذاك اليوم الأسود. ودعوت كثيراً لأولئك الذين أفنوا أعمارهم تحت سقفه المنهار.