هما آليتان دفاعيتان، ينخرط فيهما المجتمع لا شعورياً ودون تخطيط، في مواجهة الظلم والحكم الاستبداديّ. ولا ترتبطان في حالتنا بظهور تنظيم الدولة، مع أنه أسهم في إعادة المجتمع إليهما، بعد أن أصابته الحرب الطويلة والمفتوحة بالإحباط، وجعلته يكفر بجدوى الحراك السلميّ (السرّيّ والمنظم) في تغيير الواقع السياسيّ. وقد كانت السخرية وتمنّي البطش هما السلاح الوحيد الذي كان يملكه المجتمع طيلة حكم البعث، بعد أن حظرت أجهزة الأمن جميع النشاطات السياسية والاجتماعية والثقافية المعارضة، وجرّدت الأحزاب من قاعدتها الشعبية.
لا يجد المتابــع اليوم صـعوبةً في ملاحظة العدد اللافت والمتزايد من الصفحات الساخرة من الجميع، ومن تنظيم الدولة بالتحديد، على موقع الفايسبوك. كما أن هذا المتابع سيلاحظ الكمّ الكبير من الإعجابات التي تحظى بها النكات الموجّهة ضدّ التنظيم دون غيره، مما يحيل على أن قمع التنظيم وقسوته، ومحاولته إكراه المجتمع على قناعاته وتصوّراته، هو من يقف وراء هذا الموقف السلبيّ، الذي اتخذه أكثر الناس، والذي يعبّر عن حدّةٍ في المزاج، ويستند إلى ردّات الفعل في مقاومة المواقف الطارئة. دون أن نعني بذلك أن السخرية سلبيةٌ في حدّ ذاتها، لكن السلبية هي في أن تأتي عشوائيةً، دون أن توظّف ضمن إستراتيجيةٍ كبيرة، كاستخدام النكتة لكسر الحواجز والقيود، وتهيئة المجتمع لرفض الإملاءات التي تحاول أن تلبس اللبوس الدينيّ (في حالة التنظيم) والوطنيّ (في حالة النظام).
ولم تختلف هذه الآلية اليوم عما كانته في ظلّ حكم الأسد الأب والابن، إلا في طريقة تداولها، فقد كانت في السابق تنتقل شفوياً، أما اليوم فهي تعتمد على صفحات التواصل الاجتماعي، دون أن يؤثر ذلك على التناقل الشفويّ للنكتة. على أن تداول النكات على تلك الصفحات أثر في طريقة طرحها، فأصبحت تميل إلى القصر والتكثيف واعتماد الصورة. لكن محتواها ما زال يدور، كما في السابق، حول جهل عناصر الجهتين، وانتهازية رأسيهما السياسية.
هذا من ناحية السخرية، أما من ناحية البطش (أو الإيمان به) فإن المتتبع للأحاديث التي تدور بين القطّاع الأكبر من الناس الواقعين في مناطق سيطرة هذا التنظيم، والذين يحلمون بزواله، وللإشاعات التي يتناقلونها، شفوياً وعلى صفحات الفايسبوك، (عن تنظيماتٍ سرّيةٍ لتنفيذ الاغتيالات، كالكفن الأبيض) والأماني التي يبنونها (في التدخل الغربيّ)؛ يجد أن هؤلاء قد وصلوا إلى مرحلةٍ من اليأس أرخت معها لتلك الأمور العنان. وهي أمورٌ تدور، في المحصلة، حول قوىً ضاربةٍ تزيل التنظيم والمتعاطفين معه عن بكرة أبيهم. ولا نغفل هنا أن مجرّد ظهور تنظيم الدولة، في حدّ ذاته، قد يكون ترجمةً وانعكاساً لهذه الآلية (الحلم) على أرض الواقع لدى الكثيرين، مع ما صاحب ظهوره من بطشٍ منقطع النظير، وإراقة الكثير من الدماء، والتنكيل بالمهزوم بقصد الترهيب. ولا يغيب عنا هنا التذكير بالقناعة التي وصل إليها المناهضون لنظام الأسد قبل الثورة، والتي رأت أنه من المستحيل إزاحته دون انقلابٍ عسكريٍّ، أو تدخلٍ خارجيٍّ، أو حربٍ شاملةٍ يخوضها الشعب ضده.
ومن خلال تسليط الضوء على هاتين الآليتين، قد نكون وضعنا يدنا على أحد الأسباب التي كانت تقف وراء ظاهرة الرواج منقطع النظير الذي حظيت به عندنا قصائد مظفر النواب السياسية. إذ إن تلك القصائد، في التحليل الأخير، لا تعدو أن تكون ساخرةً أو ممجّدةً للبطش.
إن المجتمع، بقواه الأهلية القديمة، من أسرٍ وعشائر وأحياءٍ وغيرها، وقواه الحديثة، من منظماتٍ وهيئاتٍ وجمعياتٍ وغيرها، لم يدرك بعد مكامن قواه الذاتية، وقابلية استخدامها بطرقٍ سلميةٍ منظمةٍ ذات آثارٍ بعيدة، بمنأىً عن استخدام السلاح إلا في الحالات الاستثنائية، وأن هـــذه الطـــــرق قــــــد تكـــون لها نتائـــــج ربما لا تستطيع الجيوش الجرّارة الوصول إليها.