حين بدأ حصار داعش لحييّ الجورة والقصور، في منتصف كانون الثاني الماضي؛ لم يُعِره أهالي المنطقتين الواقعتين تحت سلطة النظام الكثير من الاهتمام، ظناً منهم أنه لن يطول، أو أنه لن يكون فاعلاً، نظراً لمعايشتهم لتهديداتٍ سبق أن توعّد بها التنظيم الحيّين بالاقتحام تارةً وبالحصار تارةً أخرى، دون أنّ يكون لها أيّ تأثيرٍ يذكر.
لكن التنظيم بدأ هذه المرّة بإطباق حصاره، مغلقاً جميع المعابر، ومانعاً انتقال الأفراد ودخول البضائع والمواد الغذائية إلى الحيّين الذين يصل تعداد سكانهما إلى ما يزيد عن 300 ألف نسمة، فضلاً عن قطع كبل الاتصالات الضوئيّ، مما أدّى إلى انقطاع السكان عن التواصل مع العالم الخارجيّ، وشحٍ كارثيٍّ في جميع المستلزمات الأساسية للحياة، والتي لم تكن متوافرةً بسهولةٍ أصلاً.
انعدام الحياة
مع مرور الوقت؛ لم يبق شيءٌ من المؤن القليلة التي كانت العوائل توفرها تحسّباً للأيام القادمة، في الوقت الذي خلت فيه المحلات التجارية من بضائعها، التي اشترى الميسورون جلّها وادّخروها، فيما أخفى بعض التجار ما بقي احتكاراً وتحسّباً لغلاء الأسعار القادم لا محالة. شمل ذلك المحلات الصغيرة مثلما شمل سوق الوادي الذي يعدّ أهمّ أسواق الحيّين. ولم تعد تتوافر أية مشترياتٍ، سوى بعض الخضار كالبصل والبقدونس والسبانخ، وبأسعارٍ جنونية.
تقول أم محمد: لم نكن نظن أننا سنختنق بحصارهم هذا، فكم من مرّةٍ هدّدوا وانكفأوا. إنهم يخنقونا نحن الفقراء، فالغنيّ سيشتري كيلو الرز حتى لو كان بعشرة آلاف. أما نحن فمن أين؟ لقد تعدّى سعر كيلو السكر الـ500 ليرة، والرز بـ700، ووصل سعر ليتر الزيت الرديء إلى 1000 ليرةٍ، هذا إن وجد. ثم كيف أطهو ولا غاز ولا كهرباء، والكاز ليتره بـ1000 ليرةٍ، إن توفر! سنكتفي بالخبز إذاً على سوء صناعته.
لكن الأكثر سوءاً هو نفاد الكثير من الأدوية في صيدليات الحيّين. يقول أبو سعيد: أمي مريضة سكّر وضغط ومقعدة. الصيدليات خاويةٌ. وأنا الآن أرى والدتي تموت أمامي ولا أستطيع فعل شيء، لا طريق يأخذنا إلى خارج هذا الجحيم.
وقد أدّى انقطاع المياه المتكرّر، وانعدام أدوات ووسائل التنظيف كالصابون والمنظفات، إلى تفشي الأمراض السارية والقمل، بالإضافة إلى فقر الدم الذي أفرزه انعدام الغذاء الصحيّ، فقد سُجّلت في الفترة الأخيرة الكثير من حالات إغماء الأطفال المتكرّر والتجفاف. ودفع انقطاع الكهرباء المتواصل، وشحّ المحروقات وغلاءها، الكثير من الأهالي إلى الاستعاضة عنها بالحطب الذي وفرته أشجار الحدائق والطرق، كي يستخدموه في التدفئة والطبخ، فتكدّست أكوام الحطب في معظم البيوت.
أبو عمر، رجلٌ في الخمسين بعينين غائرتين، يقول: "لا أملك إلا راتبي وراتب زوجتي. استأجرتُ في الجورة بعد نزوحٍ من حيّ الجبيلة استهلك كلّ ما ادّخرناه لسنين. دُمّر بيتي. وأعيش حياة الكفاف. وعندي خمسة أطفال. حاولت الخروج منذ بداية الحصار لكنهم قطعوا الطريق. من أين نعيش؟ وإلى أين ننزح؟ ولا نقود تقينا من التسوّل".
محاولات كسر الحصار
حاول النظام، بصفته الجهة المتحكّمة في الحيّين وفي مطار المدينة، كسر الحصار من خلال بيعه لسلتين غذائيتين، حملتها الطائرات القادمة من دمشق، في المؤسّسات الاستهلاكية. لكن هذه المؤسّسات اشترطت على المواطن اختيار واحدةٍ من هاتين السلتين، بعد اصطحاب دفتر العائلة الذي سيقوم الموظف بختمه كي لا يستطيع المشتري العودة وابتياع السلة الأخرى. ومع ذلك لم تكن تلك السلال تفي بالغرض، إذ إن أغلب موادها كانت منتهية الصلاحية أو قريبةً من ذلك، وأسعارها توازي أسعار السوق السوداء. فالسلة التي بلغ سعرها 4200 ليرةٍ ضمّت عشر علب فولٍ ودستة مكعبات ماجي وكيلو رز وعلبة دبس بندورة صغيرة وكيلو شاي من النوع الرديء، لا يتعدّى سعرها مجموعةً الـ1500 ليرةٍ في الأحوال العادية. أما السلة الأخرى، والتي لا يحقّ لمن اشترى الأولى أن يشتريها وبالعكس، فقد ضمّت 2 كيلو بطاطا وكيلو بصل وليتراً من زيت الذرة الرديء. بسعر 1000 ليرةٍ، بينما كان قبل الحصار لا يتعدّى الـ300 ليرة في أسوأ الأحوال.
تقول فاطمة: أخرج كلّ يومٍ لأبحث لأطفالي عن طعام. لا شيء في المحال التجارية، وسوق الوادي الكبير خلا من كلّ شيءٍ إلا البصل والفجل وأصناف "الحشيش" الأخرى. لم يأكل أولادي البطاطا منذ أكثر من شهرين. وزّعوا بطاطا في المؤسّسات لكنني كنت قد اشتريت السلة الأولى وأضعت على نفسي وأولادي فرصة الحصول على السلة الثانية، لأنهم ختموا دفتر العائلة.
حاول عددٌ من التجّار المغامرين كسر هذا الحصار، فنجح بعضهم، لكن البضائع القليلة التي هُرّبت كلّفت الكثير فبيعت بأسعارٍ خيالية. في حين فشل البعض الآخر ووقعوا في أيدي داعش، وتواردت الأنباء عن مقتلهم أو اختفائهم حتى الآن.
في ظلّ كلّ هذا الوضع، يبقى عناصر النظام، الذي تزعم داعش محاصرته، آخر المتضررين. إذ لا يشكو أزلامه ولا عناصر جيشه من قلة المؤن، فالغذاء الذي تنقله لهم الطائرات يفيض عن حاجتهم. ليبقى سكان الجورة والقصور تحت رحمة الظالمين.