علي أثناء مشواره النهاري في القرية (يمين)
مصطفى عبد الرحمن | بلال الدوماني
۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون ۞
دروسٌ من معركة بدر
ورد من أنباء غزوة بدرٍ، وقبل أن يلتقي الجيشان، أن بعض المسلمين ممن كانوا يقومون بمهمة الاستطلاع ألقوا القبض على غلامين من غلمان قريشٍ كانا يستقيان الماء لجيشها، فأسروهما وقدموا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدوه في الصلاة. وسأل الصحابة الغلامين عن أخبار المشركين فقالا عنها ما يعلمان فعلاً، ولكن بعض الصحابة ظنوا أنهما يكذبان بهدف تضليل المسلمين وخداعهم، فقاموا بضربهما لحملهما على الاعتراف بكلامٍ آخر، فتفوّه الغلامان تحت الضرب بكلامٍ كاذبٍ يرضي السائلين، والنبيّ لا يزال في صلاته. فركع وسجد سجدتيه ثم سلّم وقال: «إذا صدقاكم ضربتوهما، وإذا كذباكم تركتوهما! صَدَقا والله!». مما يدلّ على نهيه لمن قام بتعذيب الأسرى عن فعله. فقد جاء في سيرة ابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى [من بدر] فرّقهم بين أصحابه، وقال: استوصوا بالأسارى خيراً. وكان أبو عزير بن عمير بن هاشم في الأسارى... قال: «وكنت في رهطٍ من الأنصار حين أقبلوا بي من بدرٍ، فكانوا إذا قدّموا غداءهم وعشاءهم خصّوني بالخبز [على ندرته] وأكلوا التمر [فقط]، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إيّاهم بنا. ما تقع في يد رجلٍ منهم كسرة خبزٍ إلا نفحني بها. قال: فأستحيي، فأردّها على أحدهم، فيردّها ما يمسّها». ويعلّق العلامة الأزهري الشيخ محمد أبو زهرة قائلاً: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يوصي بأسرى بدرٍ وكأنهم في ضيافة، وليسوا في أسر».
أما عن طريقة التعامل مع ملف هؤلاء الأسرى فقد قال ابن كثيرٍ في تفسيره: «ثم أنتم بعد انقضاء الحرب، وانفصال المعركة، مخيّرون في أمرهم؛ إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجاناً، وإن شئتم فاديتموهم بمالٍ تأخذونه منهم وتشارطونهم عليه». ومن المعروف أن الرسول اشترط على من أراد فداء نفسه من القارئين الكاتبين، ولم يكن موسراً، من أهل مكة، أن يعلّم عشرة نفرٍ من المسلمين القراءة والكتابة. وقد علّم كل واحدٍ من هؤلاء صبيان يثرب الكتابة فانتشرت بينهم. وورد أن عبد الله بن سعيد بن العاص بن أمية كان من الأسرى، فيومئذٍ تعلم الصحابيّ زيد بن ثابت، وجماعةٌ من غلمان الأنصار، الكتابة على يديه.
قصة أسيرٍ معاصر
علي شربا (26 عاماً) من قرية كفر عقيد التابعة لمدينة مصياف. أحد أفراد الطائفة العلوية. رقيبٌ متطوّعٌ تمّ أسره على يد الجيش الحرّ إبّان اقتحام مدرسة المشاة...
لم يكن علي يعتقد أن كلّ تلك الدماء التي سالت منه وهو ملقىً هناك بجوار شجرةٍ في مدرسة المشاة، إنما تسير به إلى حظٍّ جميلٍ وليس إلى موتٍ ذليل...
كانت نيران الجيش الحرّ تدكّ مدرسة المشاة، معلنةً عن اقتراب سقوطها. حاول علي الهروب مع أصدقائه، ليصاب بشظية قذيفة هاون في رأسه وهو على ظهر "البي إم بي". غطّت الدماء وجهه. حاول الوصول، مع زملائه الذين كان البعض منهم يسقط أمامه بين جريحٍ وقتيل، إلى المستوصف، وهو أقرب نقطةٍ طبّيةٍ إليهم، وكان يقع بالقرب من السور الفاصل بين مدرسة المشاة والتدريب الجامعي... لم ينقطع نزيف رأسه ولكن طبيب المستوصف طلب منهم جميعاً أن يعودوا إلى القتال. يقول علي: "لم يكترث أحدٌ بنا، فخرجنا على الفور.. كانت المنطقة ما تزال تستهدف، حين سمعت ضابطاً برتبة عقيدٍ أعرفه جيداً، يطلب المؤازرة على القبضة اللاسلكية، ويأتيه الرد: قاوموا، دبّرو حالكن".
أدرك عــلي أن المدرســة ستسقط، فخلع بدلته العسكرية، بعد أن شعر أنه لم يعد من شرفٍ في ارتدائها. حـــــاول الوصــــــول إلى الباب الرئيسيّ للتدريب الجامعي، حيث جلس بجـــــوار شــــــجرةٍ بعد أن خارت قــــواه. كانت تكبيرات مقاتلي الجيش الحرّ تسمع خلف السور، ولاحظ أنهم يحاولون أن يفتحوا طلاقية في الجدار خلفه. أدرك أنهم سيقتلونه فور رؤيتهم له.
كانت الفكرة تقتل القدرة على الحركة فيه أكثر. شعر بشيءٍ قد اخترق فخذه، شظيةٌ أخرى قد أصابته. بقي في مكانه لكن عينه كانت تراقب الجدار الذي يوشك على الانهيار. زحف على ركبتيه حتى وصل إلى غرفةٍ صغيرةٍ قريبةٍ من الجدار. لاح له رجلٌ ذو لحيةٍ طويلة. كان علي ما يزال يمسك ببندقيته حين خاطبه الرجل: "اقترب عليك الأمان. لا تطلق النار". أشار علي بيده أن لا، لن أطلق النار... لتخترق صدره رصاصةٌ طائشةٌ نتيجة الاشتباكات التي كانت تدور في
المكان. يخبرنا علي أن الرجل أسرع باتجاهه وسحبه من كتفيه، ثم حمله على ظهره وابتعد به عن خطر النيران، حتى وصلا إلى مجموعةٍ مرابطةٍ عند السور، اختلف أفرادها فيما إذا كان علي ضابطاً أم لا، فصرخ بهم الرجل: "أسعفوه على الفور"...
سريعاً كانت سيارة الإسعاف تنقل علي إلى أقرب مشفى حين كان يغيب عن الوعي. أجريت له عمليةٌ جراحيةٌ اسعافية، فإمكانيات المشفى لا تساعد على التعامل مع حالةٍ كحالته. نقلوه مرّةً أخرى إلى مشفى منبج الذي كان غير مجهزٍ أيضاً، فتابعوا به إلى مشفى جرابلس حيث أجريت له عمليةٌ أخرى، وأخذت لجسده الصور الشعاعية. حين استقرّ وضعه عادوا به إلى مشفى الراعي حيث بقي مدّةً، ليحال إلى سجن أمن الثورة هناك. لم تمنع كلّ تلك المعاملة التي لقيها أن يسألهم متخوفاً: "متى ستذبحوني؟". ردّ عليه أحدهم وقال: "لن نعاملك إلا بما يأمر به ديننا". في اليوم التالي أدخلوا له جهازاً خليوياً ليطمئن أهله وذويه. يقول علي: "لم أكن أعني لهم شيئاً، ولست مهماً بالنسبة إليهم، لماذا لم يقتلوني؟ كانوا يقدّمون لي الخدمة الطبية من تضميدٍ لجروحي وتأمين الدواء لي، حتى أنهم كانوا يفرغون بولي بأيديهم ويساعدونني على النهوض، في محاولةٍ منهم لدبّ القوّة في أوصالي... كانوا يقرأون عليّ بعض الآيات والأحاديث التي يعاملونني من منطلق نصّها".
مرت فترةٌ طويلةٌ حتى استطاع علي النهوض على قدميه. هنا كان بإمكانه الخروج للفسحة في باحة السجن ليكتسب جسده الضعيف قوةً من نور الشمس، كان يجلـــــــس لساعاتٍ على ذلك الكرسي.
يذكر لنا أنه ذات مرةٍ كان يجلس هناك عندما سمع الجمـــــيع صــــوت الطائرة، وكيف أسرع مدير السجن الذي كان قريباً وسحبه من يده وركض به خارج الساحة خوفاً عليه. كــــانت المعامـــلة تدهشه يوماً إثر يوم....
أخيــــــــراً عــــرف علــي أن خلاصه من الأسر لــــــــن يــكـــــون إلا بصفقة تبادلٍ مع النظام. بقي ينتظر يقتله الأمل، حتى تعــــرّض الســـــجن لغارةٍ من الطيران الحربي وساءت الأوضاع هناك. لم يكن من خيارٍ لإبقاء علي وأمثاله بأمانٍ إلا بنقلهم إلى أمكنةٍ أخرى. كان حظّ علي جيداً فقد وكل مدير السجن أمره لأحد مساعديه، الذي راعى حرج وضع علي الصحّي فذهب به إلي
بيتٍ ريفيٍّ ينتمي أفراد عائلته إلى الثورة، ريثما تتحسن الأوضاع. يقول علي: "حين أتوا بي إلى هنا سألني أبو أحمد، وهو الرجل الذي أتى بي، كيف تريد المعاملة؟ أسير أم ضيف؟ فقلت: لا، بل ضيف. فطلب من أهل البيت أن يعاملوني كضيف".
اللافت في قصة علي أنه ما زال على وضعه كأسيرٍ ضيفٍ، فهو يعيش في ذلك البيت حتى الآن. ومع الزمن جمعته علاقات صداقةٍ مع كــثيرين في القرية يزورهم ويزورونه... لكنه ما يزال أيضاً بانتظار صفقة التبـادل مع النظام.