التسوية المستعصية في مدينة الميادين
عدّتها مجرمون وقناتها الشبيحة في الدير

باشرت أجهزة النظام ومؤسساته عملها بترتيب إجراءاتها الرسمية، الشكلية بالطبع، لتقنين الإذلال الذي تشترطه عودة الأهالي إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم جنوب نهر الفرات في محافظة ديرالزور، بعد سيطرة الميليشيات الإيرانية /الأفغانية والروسية والمحلية والعراقية شرقاً إلى جانب الجيش على المنطقة خريف العام الفائت، ليبدأ ميليشياوياً على مستو آخر رديف -بشكل فج في مدينة الميادين- وحقيقي أكثر، ترتيب إجراءات أبناء السلطة والولاء، الإذلالية كذلك، ولكن اجتماعياً هذه المرة.

يتداول في النزوح راغبون بالعودة إلى ديارهم في الميادين، وآخرون محتارون من أمرهم، أخبار تحركات مسؤولية في ديرالزور بكثير من الترقب، خاصة تلك المتعلقة بالعودة، والمحصورة في الإعلام الرسمي، بشخصيات المحافظ ورئيس فرع الحزب ورئيس اللجنة الأمنية والعسكرية ولجنة المصالحة وقائد المجموعة العملياتية. ويصب في هذه التحركات تحسين سبل المعيشة والخدمات ورجالاته.

وبدأ الترويج، منذ بداية السنة الجارية، لما يطلق عليه تسوية أوضاع، عبر نقاط تجميع اعتُمدت من قبل جيش النظام، وتشكيل (فصائل حماية ذاتية) و(كتائب طوعية)، كانت دفعتها الأولى 95 شخصاً من موظفي الدوائر والمؤسسات، عناصرها يقاتلون لحماية مناطقهم -انتشرت أخبار على صفحات ومواقع محلية عن نقل قسم منهم إلى جبهات الغوطة الشرقية- واعتُمدت مدينة الميادين (مركز الاستقطاب والاستقبال رقم واحد)، بحسب قرار من قيادة المنطقة الشرقية في قوات النظام.

وبغضّ النظر عن العودة ذاتها، والطريقة التي ستتم بها، والقرارات التي ستوجهها، فإن شكل العودة، وما سيليها من حياة عامة ستُبنى بالعائدين، ستطبعه محددات ومفاصل أخرى لا تعترف إلا بنفسها، بحيث تؤثر على الصراعات القائمة أو المحتملة، بينما لن تؤثر فيها هذه إلا بقدر ما ستقويها وتخرجها إلى العلن.

الترتيبات الفعلية ورجال العلاقات

مازالت القرارات بدون فاعلية، بانتظار شيء ما يتم بالخفاء. على أنه، وفي مقابل تلك التحركات، يتداول ذات النازحين أخباراً أقلّ رسمية، ولكن أكثر جديّة والتصاقاً بالواقع، عن تحركات لجان عدة بقصد (التسوية) بالشروط المعروفة، وهي الانخراط في الفصائل المحلية المزمع تشكيلها. أكثر اللجان رسمية تدير أعمالها من مدينة ديرالزور، وتضم مسؤولين في فرع الحزب والمحافظة إضافة لآخرين، يُلقي عليها اللوم نازحون في تعطيل قرار عودتهم. بينما تعمل أكثر من مجموعة تضم شخصيات محلية أكثر فاعلية في دمشق، كما يفيد مطّلعون، من خلال التواصل مع وزارة الداخلية بالحد الأدنى، والأمن القومي بقيادة علي مملوك في الحد الأقصى، بقصد تحصيل شرعية حقيقية للخروج إلى العلن بفاعلية للقرارات المعطلة.

 يشكّ الأهالي لأسباب عديدة وجيهة بتلك الشخصيات الناشطة لإعادتهم إلى مناطقهم، فقسم منها كان من المقربين أو حتى مبايعي تنظيم الدولة الإسلامية، قبل خروجه من الميادين. وسافر العديد منهم إلى دمشق ومنها عائدين دون معوقات تذكر، حين كان يُقاسي المرضى للحصول على موافقات داعش للسفر، بينما يبدو قسم من الشخصيات بلا ثقل حقيقي، يجزم البعض أن وراءهم مخبرون وأعوان سابقون للنظام، يحاولون من خلال دفع تلك الشخصيات الابتعاد عن المشهد لطمأنة الأهالي، ثم الانتقام لاحقاً من المعارضين، خصومهم المحليين. لكن رغم ذلك تظهر علاقات القرابة كضامن محتمل لتجاوز بعض الخلافات.

وفي حين تظهر على الساحة، عبر وكلائهم بين النازحين، أسماء ضباط متقاعدين أو مسرّحين، ومدراء دوائر سابقين، وأثرياء قدامى وجدد، ومخاتير ووجهاء، وأكاديميين ومتشيعين من جيل الشباب، كضامنين محتملين لكفّ يد النظام، وميليشياته المحلية خاصة، عن الأهالي، والضمان بأن انتماء عناصر الميليشيات إلى كتل عشائرية معينة، لن يعني عبودية أو هزيمة نهائية للكتل البقية. في حين يجري كل ذلك، فإن أعين كثيرين من هؤلاء مازالت معلقة بضامنين حقيقين، صنعت لهم مواقفُهم مكانتهم في المجتمع المحلي، بعكس أولئك الذي صنعتهم مكانتهم الجديدة، أو القديمة، كمقبولين لدى النظام.

من الصعب التأكد من الأنباء التي تتحدث عن منافسة جارية في دمشق بين إيران وروسيا، وأعوانهما، من أجل الاستيلاء على مدينة الميادين، وذلك عن طريق صناعة الميليشيات واستقطاب رجالات المدينة، كما يُفيد مقربون من الأخيرين، وبالتالي جماعاتهم الأهلية من كتل عشائرية، تنقسم المدينة في الأساس على أساسها، ويجري في هذا النطاق، كما تقول الحكايا، استقطاب أهل المال إلى جانب الروس، عبر أعوانهم من مسؤولي النظام، بينما تحاول إيران جر أهل (النسب الحسيني) إلى جانبها، فيما استطاعت ميليشيات النظام جمع العشرات حول شخصيات من الميادين، معروفة بسجلها الحافل بالشر والبلطجة وتجارة المخدرات والخروج على القانون. لكن من المتوقع تراكم غالبية تلك التحركات ومجموعاتها حول من سيخرج منها بقرار حقيقي بالعودة، وبالتالي (الانتماء الأصيل إلى السلطة)، إن صح التعبير، وبنائها محلياً. بينما سينتظر البقية إلى حين لإعادة التوازنات القديمة، التي خسروها مع انهيار التراتبية المألوفة والعلاقة مع السلطة و(ثقتها) بهم.

إعادة ترتيب العلاقة مع مركز المحافظة القديم

مع انهيار مدينة الدير، منذ نهاية 2012، كعاصمة لمحافظة ديرالزور، انتعشت مدينة الميادين كبديل خدمي وتجاري عنها، ومركز جذب لناشطي المنظمات والمجالس والهيئات، ثم لإداريي تنظيم الدولة. في المقابل احتفظت مدينة ديرالزور بإداريي النظام وبيروقراطييه، وبالطبع شبيحته وأمنييه وعناصر جيشه، حتى في أشد اللحظات رعباً من حصار، ثم هجوم داعش على القسم المسيطر عليه من قبل النظام في المدينة، ليظهر أولئك اليوم بمظهر (المقاوم) الذي له أحقية ما، فيشكل النواة الصلبة التي سيجد الموظفون العائدون من المحافظات الأخرى، على سبيل المثال، أنفسهم عاجزين حيالها، وقد تماسكت مصالحها وتحالفاتها وتفاهماتها وفسادها.

في هذا الإطار يندرج سباق تصوير ونشر سِير مدراء دوائر ومديريات ورؤساء أقسام وأفرع وأعضاء مجالس.. من الدير في صفحات الفيسبوك، وقد بدأ السباق مع فتح طريق دمشق قبل السيطرة على الميادين، لتفتتح الأخيرة، من ثم، طريقها إلى مدينة الدير، وليس إلى أي مكان آخر. تنشط في الطريق حركة ذهاب الغنائم من الميادين، وعودة مباركات من (الصامدين/الشبيحة) في الدير لسلطة المجرمين الجدد في الميليشيات المحلية.

تنتشر في الفضاء الإلكتروني وبين النازحين الأخبار عن الميليشيات المحلية والأجنبية والجيش في الميادين، مصادرها الصور والفيديوهات التي تنشرها ذات الميليشيات، أو التسجيلات الصوتية لشخصيات على علاقة بمسؤولين لدى النظام، والأخبار المنقولة عن أشخاص زاروا الميادين في الفترة الأخيرة. ويفيد معظمها أن الميليشات الأجنبية تمسك الخطوط الأولى من جهة بادية الميادين جنوب المدينة، وضفة نهر الفرات شماليها، بحيث تشكل طوقاً حولها، بينما ترتع على هامش تلك القوى، وفي أحياء المدينة الداخلية، عصابات محلية على شكل ميليشيات تتبع للدفاع الوطني في مدينة الدير خصوصاً، حيث يتوجه الراغبون بزيارة منازلهم للحصول على موافقة خاصة لذلك.

وتمارس تلك الميليشيات، بتسهيل من الجيش، سلب محتويات البيوت والمحال. ذهبت حصة الأسد من الغنائم لرأس الحربة في السيطرة على الميادين من الميليشيات الكبرى في تشرين الثاني 2017، على أن الفكرة الأخيرة لا تشكل سوى تفصيل صغير في الوعي الجماعي لأهالي الميادين، فالمقتنيات الكبيرة تخص قلة، يتابعها أصحابها بصمت في رحلة بحث عن مفاتيح للوصول إليها، وشرائها مرة أخرى، بعكس محتويات المنازل والمحال، التي يباع قسم كبير منها على الأرصفة في مدينة ديرالزور بأثمان بخسة. فتدمير ذلك النمط الجماعي المقنن للمحافظة على الثروات الشخصية ومراكمتها، يفعل فعله الآن، وإلى وقت طويل، في موقف الأهالي من السلطة المحلية وعلاقتهم بمركز المحافظة.