التجانس ووهم حضن الوطن

موفق قات

في الزيارة الأخيرة لسورية، بمناسبة عيد الأضحى، وبعد عناء مرهق جداً تحت لهيب الشمس، القصد منه الإهانة أكثر من أمور أخرى تقنية وغيرها؛ وصلت بعد 12 ساعة إلى أول مخيم لا يبعد عن الحدود سوى مئات الأمتار. إذ يقطن أكثر من مائة ألف نازح في شريط من المخيمات المتجاورة، ممن شردهم الاجتياح الروسي والإيراني للريف الشمالي لحلب، في العام الماضي، بحجة فك الحصار عن نبّل والزهراء.

في إحدى الأمسيات، بينما كنت جالساً إلى جوار الخيمة قبل الغروب، نزل رجل ستيني عن دراجته وجلس إلى جانبي، بعد أن ألقى السلام، ودون استئذان تحدث وكأنه يعرفني، قال ما يريد ورحل فجأة. استغربت تصرفه، وسألت عنه فأخبرني أحد جيرانه في المخيم أنه قد رأى إخوته يُذبحون في بلدة تلرفعت في أول اقتحام من جيش النظام لها، عام 2012، عندما فرَّ الجميع إلا قلة من المؤيدين ظنوا أن هتافهم لبشار سينجيهم، فخاب ظنهم. كان هذا الشخص قد اختبأ في مكان سمح له برؤية العناصر وهم يقتلون إخوته الأربعة، ففقد عقله، أو ساح في الدنيا كما يقال.

حادثة أخرى من حي الهلّك بمدينة حلب، والذي سيطر عليه الجيش الحر منذ عام 2012، وشاركته جبهة النصرة لفترات. أحد سكان الحي سائق سيارة أجرة، ومن المولعين ببشار الأسد، وله ولدان في جيش النظام. وخلال سيطرة الجيش الحر على الحي لم يغادره، وبعد سيطرة النظام على المدينة، في أواخر 2016، تولت ميليشيا البيدا الكردية السيطرة على الهلّك، إضافة إلى ثلاثة أحياء أخرى، وصارت تعمل بالتنسيق مع مخابرات النظام لتسليم المطلوبين أو الفارين من الجيش. أما هذا المواطن «الصالح» فقام هو بتسليم ولديه اللذين هربا من الخدمة الإلزامية في فترة سابقة، لفرع المخابرات، تعبيراً عن إخلاصه ومحبته لـ«قائده»، وما زال أحدهما في سجن عسكري، أما الآخر فأُلحق من جديد بإحدى التشكيلات العسكرية للنظام. أما هو، ونتيجة أحد التقارير ممن هم أكثر «إخلاصاً وشرفاً» منه، وبحجة أنه عمل في يوم ما أثناء سيطرة الجيش الحر في إحدى المؤسسات الخدمية، فقد اعتقله فرع المخابرات الجوية، ولم تشفع له كل «محبته» لقائده، وهو الذي كان يقول: لو شققتم عن قلبي لرأيتموه ينبض لبشار!

تلخص هاتان الحادثتان، والكثير من أمثالهما، عقلية وسلوك النظام في تعامله مع كل من يشك في ولائه، أو بالأحرى مع أي تهمة ولو كانت كاذبة تفيد باختلاف عنه أو عدم طاعة له. وهذا الأمر ليس جديداً على نظام عمره أكثر من أربعين عاماً، تكرس بفعل المخابرات وتلصصها على الناس ومحاربتهم على نواياهم وحتى على أحلامهم. والحديث عن الأحلام ليس مبالغة أو توهماً كما قد يتصور البعض، ففي الثمانينات اعتقل فرع الأمن السياسي بحلب ثلاثة أشخاص: مدرساً وطالبين، بتهمة أن المدرس روى لطلابه حلماً رآه وتناقلوه بينهم، مضمونه أن النبي ظهر له وأخبره عن الظلم الواقع في سورية. وظلّ جماعة «حزب الأحلام»، كما صار بقية المعتقلين يدعونهم، موقوفين عرفياً لستة أشهر!

تشي هذه الممارسات بأمر واحد، وهو الذي عبّر عنه بشار الأسد مؤخراً بأنه حصل -بعد كل هذه الخسائر- على مجتمع صحي ومتجانس، أي على مجتمع من المخبرين والموالين.

لهذه الأمور، ولغيرها، شكلت الثورة السورية نقيضاً جذرياً لهذا النظام وتركيبته؛ إذ دعت إلى الحرية نقيضاً لعبودية النظام، وإلى التعدد ضداً من تجانس مجتمع العبودية. وهو أمر أدركه جيداً ومن اليوم الأول، فضلاً عن حلفائه الإيرانيين والروس، وهي الأنظمة العريقة في استبداديتها وعدائها لتطلعات شعوبها قبل شعوب العالم الأخرى.

رغم كل التعثر والانتكاسات التي حلت بالثورة، والتي كان أكثرها ناشئاً عن بشاعة القصف الروسي وكثافته، وحقد الميليشيات الإيرانية، فضلاً عن مخابرات النظام وقواته، تبقى هي الأمل والمخرج الوحيد لما عانته سورية من ظلم وقمع مزمنين، ووسيلة لمنع تحويلها إلى مجتمع متجانس من العبيد.

ليست الثورات صافية ونزيهة كما يتخيل البعض، وربما تكون السنوات التي مضت من أصعب المراحل في تاريخ الثورة، لكنها قد تكون أسست لوعي بحقوق لم نكن نعرفها لولاها، وبالتأكيد تناقض المجتمع المتجانس.