بين داريا وحلب
حملت الأيام الماضية لنا انتكاستين موجعتين؛ تمثلت الأولى في إجلاء من تبقى من أهالي داريا، مقاتلين ومدنيين، عن هذه المدينة التي غدت إحدى أيقونات الثورة من نواحي متعدّدة. وتبعتها الثانية باستعادة النظام السيطرة على الكليات العسكرية جنوب حلب وإعادة إحكام طوق حصاره على ثلاثمائة ألفٍ من سكان الأحياء المحرّرة من هذه المدينة.
قيل الكثير عن هاتين الواقعتين الثقيلتين، ووُجّه اللوم إلى أطرافٍ هنا وفصائل هناك، كما هي حال الخسارات دوماً، يتقاذفها الناس ككرة نارٍ على وشك الانفجار، محمّلين بعضهم المسؤوليات. لن ندخل هنا في هذا الباب من التلاوم، لإيماننا أن الظروف ثقيلةٌ على الجميع على حدٍّ سواء، مقتدين في ذلك بقول أحد مقاتلي داريا: «لم يخذلنا أحد». فالأجدر في مثل هذه الأوقات النظر إلى البسالة الملحمية التي أبداها مقاتلو المعركتين في كلٍّ من داريا وحلب أمام كثافةٍ وحشيةٍ في النيران تمتلكها قوات العدوّ الأسديّ مع تفوّقها بميزة استخدام سلاح الجوّ، واستعانتها بالروس والإيرانيين وشذّاذ فيافي الطائفية من لبنانيين وعراقيين وأفغان. ورغم ذلك استطاع ثوّار داريا الصمود لسنوات، وتمكن مجاهدو حلب من اجتياح الكلياتٍ في يومٍ واحدٍ يستعدّون لتكراره قريباً.
غير أن ما تقوله التجربتان لا يقتصر على هذا التشابه، بل يتعدّاه إلى اختلافٍ في الطبيعة والبنية يلقي الضوء على ما تعانيه هذه الثورة اليتيمة من عجز المجتمع الدوليّ وتردده. ففي حلب قامت المعركة على أكتاف جيش الفتح أساساً، مع الثقل الوازن فيه لجبهة فتح الشام (النصرة سابقاً)، وبدورٍ فاعلٍ للتركستان وسواهم من «المهاجرين» الذين يمنحون الشمال صفته «الإرهابية» في نظر المجتمع الدوليّ. أما في داريا المهذبة، التي قدّمت الورود لقامعي مظاهراتها علّهم يخجلون قليلاً، فقد كان جميع المقاتلين من الجيش الحرّ بأفضل أشكاله، ومن المؤمنين بمستقبلٍ مدنيٍّ ديمقراطيٍّ للبلاد، ولكن ذلك لم يُحدث فرقاً للأسف. فمع صورة قاسم سليماني جنوب حلب وصورة بشار الأسد يقترف ما يزعم أنه صلاة العيد في داريا وصلت الرسالة ذاتها من كلتا المعركتين للسوريين الثائرين: مهما كنتم فأنتم متروكون لمعادلات القوّة المحضة.
ويسألونك عن أسباب التطرّف... ويلومونك على عدم وجود شريكٍ «موثوق».