مجـ(غزوة)ــزرة باريس
يسرّ المرء لقراءة الإدانات السورية المعارضة والثورية المستنكرة لما حدث في باريس منذ أيام. ومما يدعو إلى التفاؤل أن هذا الرفض لم يصدر فقط عن الكيانات السياسية، بل عن فصائل عسكريةٍ وازنةٍ في الساحة. ولكن الاقتصار على رؤية هذه المواقف غير كافٍ على الإطلاق، وغير مجدٍ للسير ببلادنا وناسها إلى الأمام.
بالنسبة إلينا كسوريين، نعرف البير وغطاه كما يقال، لا يصحّ أن نقف عند هذا النصف المليء بالماء السائغ من الكأس، بل علينا أن لا نتجاهل النصف الآخر الذي نعرفه جيداً، المليء بالدم والعلَق والصديد، والذي نلحظه لدى معارف كثرٍ في أحاديث شفويةٍ، وعلى صفحات الفايسبوك الخاصّة والعامة، بل حتى لدى اللاجئين إلى الدول الأوربية، يهمسون تشفياً بذرائع طفوليةٍ من نوع «فليذوقوا مما نذوقه!».
لا يتسع المقام هنا للاستفاضة في التحليل، غير أن الحفر في جذور هذه المواقف الحاقدة ببشاعةٍ غريبةٍ على أناسٍ كانوا يسيرون في الشارع أو يحضرون مباراة كرة قدم، لمجرّد أنهم غربيون، يستوجب قراءةً أولية، فضلاً عما يستحقه من إدانةٍ هو الآخر.
وإذا حصرنا الحديث بالسوريين، رغم اشتراكهم في هذا مع كثيرٍ من أبناء الشعوب العربية و«الإسلامية»، يجب أن نتذكّر أنهم قاموا بثورتهم لأنهم يرفضون من نظامهم معظم ما يقول ويفعل سوى العداء للغرب، الذي كان الشعب والحكم يتبادلان التشدّد فيه، كلٌّ حسب برنامجه وحساسياته. وإذا كان سوريو الثورة قد تجاوزوا هذه الحساسية المتأصّلة من الغرب وبحّت حناجر متظاهريهم تطالب بالحماية الدولية وبضرب قوّات بشار الأسد الغاشمة؛ فقد كانت هذه طفرةً غير متجذّرةٍ في الشعور السياسيّ الشعبيّ السوريّ، دفعت إليها الحاجة والدماء التي سالت بغزارة.
ولما لم يفعل الغرب ما انتظره هذا الرأي العامّ منه، وضاق الخناق وبلغ الألم عنان السماء، شهراً وراء شهرٍ وعاماً إثر عام؛ لم يكن أسهل على هذا الشارع أن يرتكس إلى مألوفاته في النظر إلى الغرب وسياساته ومنظماته الدولية بوصفها مخادعةً ومتحيّزةً ومصلحيةً «تكيل بمكيالين»، وصولاً إلى أنها استعماريةٌ حاقدةٌ على سورية تارةً، وعلى العرب تارةً، وعلى الإسلام تاراتٍ وثارات.
صحيحٌ أن السوريين لم «يودِعوا» في بنك الثقة العالميّ ما يكفي لاعتمادهم كأحد شعوب العصر، من احترامٍ للحقوق والحرّيات والقوانين الوطنية والدولية، ولكن الصحيح أيضاً أن استدراجهم إليها شهد فرصةً عام 2011 (و2012)، لم تُسبق من قبلُ، أثناء وقوعهم في أسر خليطٍ من الدعاية البعثية الاشتراكية المعادية للغرب والإسلامية النضالية الشعبوية لحزب الله، مع التأثير العميق والمتجدّد لحروب إسرائيل وقضية فلسطين، كما لم تحدث بعدُ، عندما انتشرت بينهم الأيديولوجيات الجهادية المعادية للغرب بشكلٍ أكثر جذريةً، فاتصل العداء الروتينيّ الكهل بعداءٍ شابٍّ و«حيويٍّ» ومقاتل.
لقد ضاعت فرصةٌ «تاريخيةٌ» بالفعل... ولكن لا بديل عن ترميمها واستعادتها...