لم يؤدّ وصول عدد شهداء المقتلة السورية إلى نصف مليون قتيل، وملايين المعاقين الذين لا يعرف أحدٌ عددهم بدقة، إلى توحيد قوى المعارضة السياسية أو العسكرية. ولا أدّى خراب العمران السوريّ، وتحويل المناطق التي كانت آهلةً بالسكان إلى مناطق غير قابلةٍ للحياة البشرية، وتشريد نصف السكان في بلاد الله الواسعة، إلى اتفاق النظام الكيماويّ والمعارضة على وقف الحرب العبثية التي يتفق جميع المتابعين على استحالة انتصار طرفٍ فيها على الآخر. ولا أدّى انتهاء "السيادة الوطنية" إلى وصايةٍ دوليةٍ متعدّدة الأطراف على مصير سوريا، وتقسيم الأراضي السورية، عملياً، بين قوى أمرٍ واقعٍ عديدة، إلى الوقوف دقيقة صمتٍ على شهيدٍ اسمه الكيان السوريّ.
فقط حين أعلن صالح مسلم وربعُهُ إقامة كيانٍ فيدراليٍّ في شمال سوريا، توحّد الجميع ضدّه: أميركا وروسيا والمجلس والائتلاف والاختلاف وحسن عبد العظيم والفصائل الإسلامية، وتلك المعتدلة، وهيثم مناع العودات، وتركيا الإسلامية، وتركيا العلمانية، وتركيا القومية، وإيران، وعراق الشيعة، وعراق السنة، وكرد البارزاني والطالباني في سوريا، وبشار الجعفري وسميَّهُ/صهره الكيماويّ، والشعب السوريّ الموالي، والشعب السوريّ المعارض، والبينَ بين..
ليست هذه مناحةً صادرةً عن مظلوميةٍ أقلويةٍ لسان حالها (اتفق الجميع علينا)، بل محاولةٌ للتنبيه من أوهامٍ قاتلةٍ ما زالت، بعد كلّ هذه الدماء وكلّ هذا الخراب، قادرةً على التلاعب بعواطف الجموع ومصائرهم. وهمُ الأمة الغالبة أو وهمُ السيادة الوطنية أو وهمُ أن السوريين كانوا متساوين في التعرّض لظلم نظام الأسد، وسيكونون متساوين في العدالة في الجنة الديموقراطية الموعودة بعد إسقاطه، بصرف النظر عن الدين والعرق والمذهب (إلخ إلخ..).
كيف يمكن للكرد أن يثقوا بأيّ كلامٍ إنشائيٍّ من نوع "بصرف النظر عن.." ومجرّد إعلان صالح مسلم لكيانٍ فيدراليٍّ (متعدّد القوميات، والحقّ يقال) فتح عليهم أبواب جهنم؟ وعادت تلك الحكايات السقيمة عن أن الكرد مهاجرون من تركيا، ولا حقوق لهم في الأراضي السورية، عادت إلى الظهور بطريقة أكثر رثاثةً وابتذالاً من أيّ وقتٍ مضى. أفتى "المفكر الفلسطينيّ"، مثلاً، أنهم هاجروا في الخمسينات! أو هناك من يرمون كلّ الشرور على جماعة صالح مسلم لأنها هدفٌ سهلٌ من جهة، ولعزلها عن بقية الكرد "الطيبين، الحبابين" من جهةٍ ثانية.
متى لم يكن الكرد متهمين بالنزوع الانفصاليّ، في الخطاب الشائع في سوريا والعراق وتركيا وإيران؟ لقد باتت هذه التهمة صفةً لصيقةً بهم، تماماً كالتصاق صفة الإرهاب بالمسلمين في خطابٍ عالميٍّ شائع. وفي الحالتين لا فائدة من التبرّؤ.
في الجوّ المشحون والموبوء الذي أعقب إعلان الفيدرالية المزعومة، يمكن طرح سؤالٍ من النوع الذي يتضمّن جوابه، على معارضي النظام الكيماويّ الذي بات بينهم وبينه ما صنع الحداد: هل توافق على بقاء النظام، إذا كان ثمن إزالته تقسيم سوريا من خلال قيام كيانٍ كرديٍّ مستقلٍّ في الشمال؟
الجواب "البديهي" هو: نعم، ليبق النظام. هذا ليس افتراضاً من عندي، بل هو ما حدث حين اتفق النظام والمعارضة على رفض الفيدرالية، مع علم الطرفين أن القوى العظمى الوصيّة على مصير سوريا (أميركا وروسيا بخاصة) متمسكةٌ بوحدة أنقاض سوريا وأشلاء السوريين، وترفض أيّ تقسيم.
صالح مسلم لعب جوكراً كان بحوزته لينضمّ إلى بازار جنيف، وليقتل الحكومة التركية بغيظها. وتمكن، ثالثاً، من افتعال زوبعةٍ في فنجان، فقرَّبَ بين النظام والمعارضة وفقاً للخطة الروسية للحل السلميّ.
أما الكرد فهم، ببساطةٍ، يريدون الاستقلال في دولةٍ تخصّهم، بعدما يئسوا من التخلص من اتهامهم بالنزعة الانفصالية. لكن هذا موضوعٌ آخر، لا علاقة له بلعبة البوكر التي يلعبها صالح مسلم.