لا يمكن الحصول على إحصائياتٍ دقيقةٍ بعدد محلات المستعمل في مدينة إدلب أو عدد المتعاملين فيها، ولكن يمكننا القول إن هذه الظاهرة ازدادت بشكلٍ كبيرٍ وجليٍّ بغضّ النظر عن أسبابها، وإيجابياتها أو سلبياتها. وما هي إلا حلولٌ مؤقتةٌ لشعبٍ تعلم على مرور سنوات الثورة التأقلم مع وضعٍ يخبئ كلّ يومٍ مفاجآتٍ جديدة.
أسهمت أسبابٌ كثيرةٌ في رواج هذه التجارة؛ فتراجُع سعر صرف الليرة، والضائقة الاقتصادية التي يمرّ بها الجميع، وارتفاع الاسعار بشكلٍ جنونيّ، وتراجع دخل الفرد، جعلت من أسواق المستعمل هي الحلّ الأمثل لتأمين الضروريات. وكذلك كان النزوح والهجرة من الأسباب البارزة لرواج هذه التجارة، إذ لطالما دفع النزوح المفاجئ الآلاف إلى الخروج من منازلهم دون أن يحملوا معهم أيّ عفش، إما لصعوبة النقل أو للظرف الذي خرجوا فيه، فيجدون في المستعمل حلاً مؤقتاً لتأثيث منازلهم أو خيامهم في أماكن نزوحهم. ومن جانبٍ آخر دفعت الحاجة كثيراً من الأسر إلى بيع أثاث منزلها بأرخص الأثمان لتأمين الطعام أو الأساسيات.
كما أن انقطاع الكهرباء عن المناطق الخارجة عن سيطرة النظام جعل من البراد والتلفزيون وشاشة البلازما والمكواة والغسالة، والكثير من الأدوات الأخرى، حكراً على الأثرياء، لأن تشغيل مثل هذه الأجهزة يحتاج إلى مبالغ باهظةٍ تدفع ثمناً للـ"أمبيرات". فأصبحت أدواتٍ لا حاجة إليها، وانتهى بها المطاف أمام المحالّ لعل أحداً -يستطيع دفع الثمن الكبير لتشغيلها- يقتنيها، فتشغيل البراد يعني أن تشترك بـ6 أمبيرات، بتكلفةٍ شهريةٍ تصل إلى 15 ألف ليرةٍ، في بلدٍ ما زال راتب الموظف فيه 25 ألفاً.
"قرّب.. قرّب يا حباب... من مواد الصحية لقفل الباب"، بتلك الجملة وغيرها يعلو صوت الباعة يوم الأربعاء، وهو يوم "البازار" في مدينة إدلب. الأدوات المستعملة، من منزليةٍ وكهربائيةٍ وتمديداتٍ صحيةٍ وغيرها، هي الأكثر عرضاً في سوق المدينة وفي أسواق البلدات والقرى.
وعندما تسير في شارع الساعة بإدلب تتردد على مسمعك جملٌ كثيرة: "طقم كنبات رح يعجبك"، "شاشة بلازما أصلية للبيع"، "عفش جديد صاحبو برك عليه شهر واستشهد". ومن الملاحظ أن تلك الأدوات أصبحت منافساً كبيراً لمثيلاتها الجديدة ليس فقط من ناحية الأسعار إنما من ناحية الجودة أيضاً، فالمستعملة أكثر جودةً لأن البضائع الجديدة التي تدخل إلى المناطق المحرّرة غير خاضعةٍ لأيّ رقابة أو سلطة، وعلى الغالب تكون من أسوأ الأنواع وأردئها صناعة، ويتمّ استيرادها خصيصاً للسوق السورية ليتمكن المواطن من شرائها ويحقق التاجر المرابح الكبيرة دون رقيب.
يستعد أحمد للزواج قريباً، ويبحث في محالّ المستعمل عن عفشٍ وأدواتٍ كهربائيةٍ ليفرش منزله، يقول: "الأدوات الجديدة غالية جداً رغم سوء التصنيع، ولذلك أنا عاجزٌ عن شرائها. ولم أجد حلاً إلا محالّ المستعمل لأستطيع أن أشتري عفشاً بالمبلغ الذي جمعته لهذا اليوم. بصعوبةٍ استطعت إقناع عروسي بشراء غرفة نومٍ مستعملة".
ويفضل كثير من الشبان المقبلين على الزواج شراء الأثاث المستعمل، لأسعاره المناسبة لوضعهم المعيشيّ، وتخوّفاً من ترك منازلهم في حال اشتدت الأوضاع سوءاً، وبذلك تكون خسارتهم أقلّ مما لو كانت تلك الأدوات جديدةً وبسعرٍ باهظ.
ولكن سلبيات هذه الأسواق كثيرةٌ أيضاً، وأهمها أن بعض اللصوص وجد فيها منفذاً سهلاً لبيع مسروقاتهم، وأنها تسهم في الاختناقات المرورية، وخاصة في الأماكن المزدحمة، لأن المبيعات تعرض على الأرصفة والشوارع في ظلّ غياب تنظيم المرور والبلديات التي تقمع مخالفات استخدام الأملاك العامة في عرض الأشياء، وأخيراً أن لها تأثيراً اقتصادياً مستهلكاً على المدى البعيد، لأن البضائع المشتراة منها للاستخدام المؤقت، وبالتالي يحتاج المواطن إلى تكرار الشراء عدة مرات. كما أسهمت هذه الأسواق في زيادة حالات الغش وخسارة بعض الناس نقودهم مقابل أدواتٍ معطلةٍ أو غير قابلةٍ للتصليح في كثيرٍ من الأحيان.
يقول أبو عبد الله، وهو تاجرٌ يعمل ببيع الأثاث المستعمل: "السوق اليوم بس للمستعمل، وفيه مرابح جيدة. قديماً كان بس الفقير يشتري المستعمل، أما اليوم غالبية الناس بتفضّل المستعمل بسبب الحالة اللي عم تمرّ بالبلد من عدم استقرار وتنقل دائم وقصف ودمار، بالإضافة للوضع الاقتصادي".
ظاهرةٌ جديدةٌ تدخل أسواق المستعمل هي العالم الافتراضيّ، من خلال إنشاء عدّة مجموعاتٍ وصفحاتٍ على موقع فيسبوك للترويج للأثاث الذي يريد أصحابه بيعه. وبات هذا النوع من التجارة يلقى رواجاً كبيراً على وسائل التواصل الاجتماعيّ، كأحد الحلول التي يبتكرها السوريون يومياً للتعايش مع ظروفٍ قاسيةٍ تفرضها عليهم الحرب التي يشنها النظام ضدهم، ويجتهدون لدفع أضرارها وإيجاد البدائل.