أرقام تبشّر ب «عودة الروح» إلى الرقة.. ولكن

AFP

تقف الرقة اليوم على مفترق طرق، بعد أكثر من عام على انتزاع السيطرة عليها من تنظيم "الدولة الاسلامية"، عقب عملية عسكرية انتهت بتحول المدينة إلى أطلال تحكي فصولاً من مأساة أهلها، الذين قضى كثير منهم نحبه تحت الركام بقصف طيران التحالف الدولي الذي لم يبقِ ولم يذرْ شيئاً في المدينة، فنجحت عملية "التحرير" وماتت الرقة.

ولكن، رغم كل ما حدث في الرقة وريفها، وما حدث كان جللاً بكل المقاييس، لا تزال تترى قوافل العائدين إليها من أهلها الذين جربوا الترحال داخل سوريا وخارجها؛ وهناك أطفال يذهبون إلى المدارس في صباحات الرقة الجميلة، أي أن الامل لم ينقطع بـ "عودة الروح" إلى المدينة التي بدأت تطل برأسها من تحت الرماد. وتؤكد مصادر محلية مطلعة أن نحو 250 ألف من أهل الرقة عاد إليها مؤخراً، وأنه تم افتتاح 5500 من محلات الرقة التجارية، و60 فرناً، و5 مطاحن، و47 مدرسة التحق بها 38 ألف طالب. كما تم افتتاح 5 مشاف خاصة، و4 مراكز صحية، و40 صيدلية.

دمّر القسم الأكبر من المدينة، وقتل أغلب أهلها، ولا تزال ترد الأنباء عن العثور على جثث تحت الركام. وانتقلت الرقة من الرايات "السود"، إلى الرايات "الصفر"، ومن تمجيد "الخليفة" إلى تقديس "القائد"، وكأن قدر الرقة أن تكون مجال تجريب وتخريب للطارئين. فما من محافظة سورية مرّتْ بتحولات دراماتيكية كما مرت الرقة، حيث انتقلت من سيطرة النظام إلى سيطرة الجيش السوري الحر في ربيع العام 2013، إلى جبهة النصرة ومن لف لفها من الفصائل، ومن ثم تنظيم "الدولة الإسلامية" في العام 2014 الذي عاث بها فساداً طيلة سنوات، إلى أن وصلت إلى "قوات سوريا الديمقراطية" في عام 2017.

تحولات صارخة وصادمة خلال بضع سنوات في المحافظة، التي ظلت على الهامش السوري منذ بداية تكوين الدولة السورية، ومن ثم -ومن مقدمات منطقية- أصبحت في قلب المتن السوري المعقد، والمتشابك والمفتوح على كل الاحتمالات وأكثرها سوءاً.

العائدون من الرقة إلى الجنوب التركي بعد زيارات سريعة لتفقد الخراب، يرسمون صوراً سوداء لراهن المحافظة، ولكنهم يؤكدون أن مستقبلها لن يكون كذلك. نسألهم عن معالم معينة في المدينة، عن أماكن كانت لنا فيها ذكريات صبا وشباب، يصمتون قليلاً ثم يقولون: استحالت إلى دمار. نحاول تعزية أنفسنا وتطييب خواطرنا، وتبريد الجرح النازف بالقول: "العوض بالسلامة"، ولكن أين السلامة؟. قتل عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء في ليالي القصف الطويلة، جلهم أطفال ونساء في زمن عز فيه النصير والظهير، ولم تعد فيه للإنسان حرمة؛ لم تعد هناك حرمة لأي شيء في هذا الزمان الجديد المتخم بالخيبات والمثقل بالآلام، والمترع بالحسرة.

دُمّر كل شيء في مدينة الرقة خلال أشهر معدودات، تحت ذريعة التخلص من تنظيم تحوّل إلى "دولة" تحت مرأى العالم ومسمعه، ودفعت الرقة ثمن هذا التحول الذي قاد إلى كارثة خطط لها العالم (المتحضّر)، الذي تواطئ على هذه المدينة عندما جمع كل أشقياء الأرض فيها، فدمرها ليقتلهم!. يا للمفارقة.. ويا للعار. الطيار الذي كان يقصف لا يعرف ما يعنيه لنا شارع "المنصور"، و "القوتلي"، و "تل أبيض"، و "هشام". لم يكن يدرك قيمة "الجسر الجديد" و "الجسر القديم"، هذه الأماكن كلها هي مجرد أهداف بالنسبة إليه يجب تدميرها، وهي حياة كاملة لنا، وأحلام، وذكريات. حتى الذكريات لم تسلم، نُحرت مرات على مدى السنين العجاف التي لم تفارق المدينة التي كانت ذات يوم بعيد حبيبة هارون الرشيد، الخليفة الأشهر في التاريخ العربي. عام كامل، والكذبة الكبرى تنتقل من طور سيء إلى طور أسوأ، ولا يزال أهل الرقة الكرماء يدفعون الثمن الموجع. عام كامل، وهناك من يحاول حرْف التاريخ عن مساره، ويظن أن الجغرافيا حليف له ومساعد.

يشتد التنافس اليوم على الرقة التي باتت منطقة نفوذ أمريكي عبر قوات "سوريا الديمقراطية" التي تشكل الوحدات الكردية نواتها الصلبة، والتي تحاول هي الأخرى نشر ثقافة دخيلة في مجتمع يملك الكثير من مقومات رفض العبث بهوية راسخة، طالما نهر الفرات يجري؛ وكأن الطارئ الجديد لم يتعظ بمن سبقه.

تتطلع كل أطراف الصراع على سوريا إلى الرقة، فكل طرف له مآربه ومصالحه في منطقة خرجت للتو من تجربة قاسية إلى تجربة أخرى مر عليها عام كامل، تدل المؤشرات أنها ستخرج منها أقوى مما كانت عليه، فهي لم تعد الخاصرة الرخوة في سوريا.