إنها مهمةٌ صعبةٌ على طبيب أسنانٍ شديد التهذيب ومثقفٍ مثل أحمد طعمة أن يكون رئيساً لوزارةٍ أول أعمالها إدارة المناطق المحرّرة بأوضاعها المعقدة ومعطياتها الفوضوية ومواطنيها المعذبين المتشككين بكل شيء. وتحتاج إلى حظٍ كبيرٍ ومهاراتٍ خاصةٍ يأمل الكثيرون أن يكون طعمة متمتعاً بهما، وهو الذي نشأ في واردٍ آخر، كيافعٍ مجتهدٍ في ثانويات مدينته دير الزور أوائل ثمانينات القرن المنصرم، يحرز العلامات العالية والإشادة من مدرّسيه، ويتبادل بعض الأحاديث مع أقرانه، في أوقات الفراغ، عن وقائع المواجهة بين الإخوان وحافظ الأسد وشخصياتها، وكما يسمع من محيطه العائلي.
كانت سنواتٍ رهيبةً عاشتها المجتمعات السنّية في سوريا بعد إخفاقها الأليم في حربٍ لم ترغب فيها مع دكتاتورٍ تقليديٍ تحوّل تحت الخطر إلى وحش، وبعد زواله إلى إلهٍ بعين نفسه وعيون مؤيّديه. ولم يكن أمام طعمة، وأمام جيلٍ كاملٍ من الشبيبة الإسلامية، سوى ظلام النفق.
ومع النصر النهائي الذي أحرزه حافظ الأسد على كل خصومه الأساسيين والطارئين، سنة 1984، انتقل أحمد إلى دمشق للدراسة في جامعتها. وفتّش هذا الشاب الخجول عن شيءٍ نافعٍ يملأ به أوقات الفراغ الكبيرة التي تتيحها دراسةٌ تطبيقيةٌ سهلةٌ نسبياً. ولا شيء يقنع من تربّى على رؤية المؤلفات الضخمة في مكتبة المنزل، وتنشق رائحتها، وحاول أن يقرأ فيها، مثل العودة إلى عالمها أو استئناف التفاعل معها. ليجد طريقه إلى سوق الكتاب في منطقة الحلبوني في أمسيات الشتاء الدمشقي القديمة تلك، وعناوينها التراثية التي لا تزعج المخابرات، بعد أن اجتُثّ منها معظم ما يمت إلى الفكر الإسلامي الحديث بصلة. فلم يجد الطالب الجامعي في بحثه، ووفق المتاح، سوى كتب البوطي، رجل الدين الصاعد بقوة آنذاك، وأستاذ كليّة الشريعة النجم، بنشاطه الدعوي الذي لم ينقطع، وموقفه المستقل عن النظام، وكذلك نمطه المختلف عن النمط المشيخي التقليدي، بالمعنى الإجرائي لهذا الاختلاف، دون معناه العميق. وهذا ما لم يقنع أحمد طعمة الباحث عن مقولاتٍ جديدةٍ ترمّم وجدانه الجريح بالهزيمة، وتجيب على سؤاله المحيّر:
لماذا هزم الإسلام السياسي وخرج من الحياة السورية بهذه البساطة؟ والإجابة طبعاً ليست من مهمات البوطي الذي يحيل كل شيء إلى "ينزع الملك ممن يشاء" أو إلى "الأحكام السلطانية" وقناعاته الراسخة بها، ليدفع ـ وبعد سنينٍ وسنين كثيرة ـ ثمن هذه الإحالة وهذا الرسوخ، بطريقة تراجيدية حزّت في نفس طعمة وأنفس قلةٍ آخرين من السوريين.
ففي موضعٍ آخر من مواضع تلك الأيام برز أستاذٌ اسمه جودت سعيد، يصدر كتباً بعدد صفحاتٍ قليل، وشواهد قرآنية أقل، وبأغلفةٍ لا تشبه أغلفة كتب المفكرين الإسلاميين. والأهم من كل هذا بمفاهيم جديدة هي ضالة قلب الشاب، رغم تركّز هذه المفاهيم حول عددٍ قليلٍ من المقولات، يأتي التبشير بالتسامح واللاعنف والتبصّر بحركة التاريخ والاجتماع في مقدمتها، مع نقدٍ غير منتظمٍ وغير متينٍ لبناء العقل المسلم، وتناولٍ شاعري لبعض الآيات القرآنية، وترويجٍ دائمٍ لآراء المفكر الفرنسي جزائري الأصل مالك بن نبي، حول قابلية الشعوب المتخلفة للاستعمار، وتقديــرٍ عميقٍ من طــــرف ســــعيد وروّاد مكتبــــة "الآفـــــــاق والأنفـــــــــس"، التي افتتحها بعض تلامذته (في الحلبوني أيضاً)، لعالم الاجتماع الفرنسي ميشيل فوكو. ومن خلال سعيد ومالك بن نبي وعلي شريعتي وفوكو تشكّل أحمد طعمة مرة أخرى، واتسعت رؤياه وصياغة فهمه للسياسة والاجتماع والحياة العامة. وهو فهمٌ مخلصٌ في إيمانه بالتسامح والديمقراطية وقبول الآخر المختلف نظرياً قبل الاحتكاك به والتعرف عليه لحماً وصوتاً ونقاشات.
وهو ما أتاحته السنوات الأخرى، وتحديداً عقد الألفية الثالثة الأول، وبيانات المثقفين وربيع دمشق ومنتدياته، ثم الإعلان الشهير، فالمجلس الوطني الذي أسسه رياض سيف، ثم السجن مع شركاء هذه الأنشطة بتنوعهم الفكري والثقافي. ولسنواتٍ عدةٍ ترسّخت خلالها عقائد الرجل التنويرية وقناعاته الديمقراطية بالآخر، بصدقٍ ورهافةٍ جعلت له في قلوب هؤلاء محبةً تضاف إلى محبةٍ أخرى لا بدّ لكل من عرف هذا الرجل أن يحملها نحوه.