تجلس أم محمد في زاوية غرفةٍ حُشر فيها كلّ ما يمكن أن يشكل أساسيات أثاث منزلٍ قابلٍ للترك في أيّ لحظة. وللدقة لا نتحدث هنا عما يمكن أن يسمّى أثاثاً بالمعنى السائد، إنها مجرّد فرشٍ إسفنجيةٍ قديمة، ومجموعةٌ صغيرةٌ من أدوات الطبخ، وثيابٌ مستعملةٌ علقت على الجدران الكالحة بمسامير، وستارةٌ من عدّة طبقاتٍ من الجرائد.
مرحبا بكم في بيت أم محمد الجديد في منفاها الأخير بأحد جرود لبنان.
"أم محمد" سيكون لقب سيدةٍ في عقدها السابع. وهي مواطنةٌ سوريةٌ من الشرق الذي تبدلت عليه جهات السيطرة عدّة مرّاتٍ خلال السنوات الأربع الماضية. لأم محمد اسمٌ في الحقيقة، لكننا سنكتفي هنا بهذا الوصف؛ لأنها تركت حقيقة اسمها ووضعها الاجتماعيّ في دير الزور التي غادرتها منذ الاجتياح الثاني لقوّات النظام للمدينة المدمّرة.
لا ينطبق هذا على جارتها وصديقة عمرها أم رياض، التي لم تعد تعرف عنها شيئاً منذ أن نزحت الأخيرة وأسرتها إلى الرقة أيام الاجتياح الأول صيف 2011. وكان آخر ما سمعته كلٌّ منهما عن الأخرى أن أم محمد وجدت بيتاً معقولاً في قدسيا وأن أم رياض تسكن عند أقاربها في الرقة.
وهما لا تعرفان أن الأولى طردت من الشقة، بعد عجزها عن دفع الإيجار المتضخم باستمرار، ثم فرّت وأبناءها وأحفادها إلى لبنان، بعد أن اختنقت المنطقة بحصارٍ يعُدّ عليهم أرغفة الخبز ورشفات الماء، بينما عادت أم رياض إلى دير الزور لتهجرها مرّةً أخرى إلى الرقة ومنها إلى الحسكة بعد اجتياحها من داعش، قبل أن تعود مجدداً إلى الدير لتسكن في الجورة ثم تغادرها إلى تركيا هرباً من حصارٍ أشد هولاً مما عانته صديقتها.
الصديقتان العجوزان شخصيتان افتراضيتان في هذه المقالة. لكنهما، في ما يعدّ واقعاً، موجودتان في كلّ بيتٍ أو شبه بيتٍ يسكنه نازحون ولاجئون. وهما من بين مئات الآلاف ممن يعدّون شهوداً على انجراف المجتمع نحو هاوية الفقر والتشرّد والتفكك.
لا تشبه مجموعة "الدراقيع" التي تشكل عدّة الحياة اليومية في غرفة أم رياض الحالية شيئاً مما كانت عليه حالها قبل خمس سنوات؛ حين كانت تتحكم ببيتٍ واسع، وشبكة علاقاتٍ اجتماعيةٍ آمنة، ونفوذٍ اعتباريٍّ على ثلاثة أجيالٍ من أسرتها الكبيرة. لكن حياتها السابقة، وكي لا نتسرّع في إطلاق الأحكام، لم تكن بهذا الصفاء المطلق. فقد كانت تختزن، على مدى ثلاثين عاماً، حزناً ثقيلاً على ابنها الشاب الذي اعتقل -لخمس دقائق كما قيل لها آنذاك- في الثمانينات ولم تعرف عنه شيئاً حتى الآن، وهي شبه متأكدةٍ أنه قتل في مذبحة سجن تدمر الشهيرة.
هذا ما تعتقده أم رياض أيضاً بخصوص اثنين من أحفادها، أحدهما اعتقل في بداية الثورة، وسمعت همساً بين أعمامه أنه شوهد مرّةً كضحيةٍ لأحد التفجيرات في دمشق ومرّةً كأحد ضحايا مذبحة التعذيب في صور قيصر، أما الآخر فقد اضطرّت ومن معها من أبنائها وبناتها إلى تركه في معدان خلال رحلة النزوح الأخيرة، بعد أن قرر عناصر الحسبة في داعش أنه في حاجةٍ إلى دورةٍ شرعية. وهي لا تريد شيئاً من دنياها سوى أن تموت قبل أن تراه ذبيحاً بزيٍّ برتقاليٍّ في أحد إصدارات داعش، أو جثةً ممزقةً تحت موقعٍ دمرته طائرات التحالف.
لم تعد "الحبابتان" كما كانتا. في الواقع لم يعد أيّ شيءٍ كما كان. وهما تنخرطان مرغمتين، ككلّ العجائز، في منظومةٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ قسرية، منظومة ستجعل كل المفاهيم المؤسِّسة لما اعتادتا أنها قيمٌ عليا قيد المراجعة الدائمة مع كلّ تبدلٍ طاحنٍ يلاحق حياة الأجيال السورية الحالية ويعيد تركيب علاقاتها.
بات عليهما -في عقدهما السابع- أن تتكيفا مع بيئةٍ نافرةٍ لا تسمح لهما بممارسة ذات الحضور الاعتباريّ عالي التقدير اجتماعياً. ولا يعود هذا أساساً إلى تغيّرٍ في الموقف الاجتماعيّ منهما ومن أمثالهما بقدر ما هو انعكاسٌ لتغيّرٍ عميقٍ في طبيعة أولويات من كانت العلاقة بينهم وبين أم محمد وأم رياض قائمةً على تبادل الولاء والرعاية تحت سقفٍ قيميٍّ صارم.
تنال حكايا الجدات في دير الزور، وفي سوريا عموماً، موقعاً خاصاً في الإرث المحكيّ. وهنّ، عادةً، نماذج للقوّة المُحبة -لا يزلن طبعاً- لكن الأبناء والأحفاد الذين سحقت الحرب حياتهم، لم يعودوا قادرين على متابعة هذا النسق من العلاقة، ولم تعد الجدات والأجداد اللاجئون والنازحون قادرين كذلك على الإحاطة بموقعهم السابق كمركزٍ لجمع العائلة.
صارت التفاصيل الصغيرة التي كانت تنظم العلاقة وتتيح المحافظة على الإرث العرفيّ للزواج والطلاق والمناسبات الاجتماعية الأخرى أمراً متعذراً للغاية. لم تعد فرصة الاستمتاع المتعالي بثرثرات الأبناء والأحفاد، والانخراط الحكيم في حلّ مشاكلهم، قائمةً دائماً. فالكلّ لاجئون ومشرّدون، يعانون ذات الوقائع القاسية التي لا تفرّق بين جيلٍ وآخر.
وفي حكايتنا النموذج صار على أم محمد التي كانت لا تضيّع فرصةً للتباهي بمصاغها الذهبيّ الهائل، أن تجد حلاً لمعادلةٍ يوميةٍ مستحيلةٍ تتعلق بعدم كفاية الطعام. كما أن صديقتها تواجه معضلة تدفئة جسدها النحيل في مواجهة أنانيةٍ غريزيةٍ للأطفال الذين ينهش الصقيع التركيّ بشرتهم الغضة.
هناك رجالٌ ونساءٌ مسنّون عادوا إلى ممارسة أنشطةٍ عمليةٍ صغيرةٍ وبدائية؛ لتوفير أيّ معونةٍ ممكنةٍ لأسرهم، بينما تثقل معاناة طوابير انتظار المساعدات الإنسانية شيخوخة القسم الأكبر منهم بتعبٍ ما كان في الحسبان.
من ناحيةٍ أخرى، قد لا تكون مرئيةً بوضوحٍ حالياً، لكنها ستؤثر بقوّةٍ على طبيعة العلاقات الاجتماعية والأسرية في سوريا مستقبلاً؛ لم يعد للآباء والأمهات -وتبعاً الأجداد- ذات النفوذ السابق على أحلام أبنائهم. وباتت أحلام الهجرة واللجوء في أوروبا، والتي لا يمكن السيطرة عليها، بديلاً لمواعظ الدراسة والتفوّق ودخول الجامعة. وانتهى عملياً النفوذ الهرميّ لشبكة العلاقات العتيقة إلى وسائط تواصل اجتماعيةٍ ورسائل اطمئنانٍ باردةٍ على الواتساب لا يمكن للطرف الراعي أن يخرج فيها عن سطوة "آخر ظهور".
قلنا إن أم محمد وأم رياض لا تعرفان شيئاً عن أحوال بعضهما، وهذا سينطبق بدرجاتٍ متفاوتةٍ على أقاربهما من الدرجة الثانية وما بعد. الحرب تحيل الحياة نفسها إلى همٍّ يوميٍّ يبدّد أيّ فرصةٍ لاهتمامٍ آخر.
تسحب الحرب أبجدية العلاقة بين الأجيال إلى ترميزاتٍ جديدةٍ لا تملك أم محمد وأم رياض، ومن في عمرهما، وقتاً كافياً لإعادة تعلمها. ستلوذان، كما غيرهما، بأملٍ مشروخٍ بالعودة إلى بيتين تعرفان أنهما دمّرا تماماً أو إلى مساحة قبرٍ في أكناف دير الزور.
ستنتميان طوعاً إلى فرقةٍ من الشهود الصامتين على تبدّلٍ في الوعي لا يناسب عمريهما ولم تعودا قادرتين على وقفه. ستريان أعاصير من الأحلام الشابة تترنح بين الثورة والحرب، أحلام شبابٍ وأطفالٍ حملوا مدنهم وركبوا البلم للبحث عن ما يناقضها في برد ألمانيا والسويد، أو أحلاماً أكثر عناداً لمن يريدون بناء دير الزور جديدةٍ تماماً لا تعرفان إن كانتا ستحبانها لكنهما لا تريدان الآن سوى حقهما بالموت فيها.