آثار الحواجز في الطريق من قلب دمشق إلى جرمانا

لا شيء أكثر ارتباطاً بإزالة بعض الحواجز في شوارع دمشق من تحسس آثارها في الزوايا ومفترقات الطرق التي ظلت تشغلها لسنوات، أو في نفوس سكان المدينة وأطرافها الذين ما زالوا يحملون الحواجز بين جنباتهم.

هناك أشياء أخرى تتعلق بالفراغ الذي يبدأ بعد مترين من نهاية أسطح المنازل: عودة الحميماتية إلى مزاولة نشاطهم مثلاً، وأن تحدق في الأفق وتراقب الحمام يطير في حلقات لانهائية، أو أن تصلك رسالة من MTN تحذرك من الألغام ومخلفات الحرب..! وتصلك بعدها رسالة تعلمك ببدء الموسم الثامن من مسلسل صراع العروش. أقل بمترين كذلك، يقفز طفل من حاوية القمامة حاملاً معه غنيمته من البلاستيك، ويركض غير آبه بمنظره المؤذي لبرستيج باب توما.

بين عناصر المشهد يتقدم السرفيس نحو جرمانا، عابراً سيارتين مدرعتين للشرطة العسكرية تقفان بشكل شبه دائم أمام باب شرقي؛ تشعر وأنت تمر بهم بأن عليك أن تغض النظر، ولا تفكر بالسيادة الوطنية وأنت تنظر إلى الجنود الروس المتحلقين حول السيارتين "بيض وشقر"، لا مجال لأن تخطئ فتعتقد أنهم سوريون والعلم الروسي يرفرف على السيارتين التي كتب عليهما بالخط الأحمر العريض (شرطة عسكرية).

بعيداً عن السيادة الوطنية يبدو الأمر مثيراً للسخرية، خصوصاً حين يعبر من أمامك سرفيس وضع صورة مذيلة بلقب (القائد الخالد) على الزجاج الخلفي الذي كتب أعلاه "الشحرورة"!

أزيلت الكثير من الحواجز، ولربما كان حاجز شارع بغداد الذي أزيل العام الماضي الحدث المبهج حينها، مع قليل من التشفي، فلطالما اشتكى الناس (راضين أو متبرمين) من جلافة عناصره. لم يكن بإمكانك عبور دمشق دون أن تحسب حساب ذلك الحاجز، عدا عن الازدحام المروري الذي كان يتسبب به، لكنني اكتشفت قبل فترة أن الحاجز في مدخل مدينة جرمانا قد أزيل أيضاً، وبقي عسكري واحد منفرداً في الطريق الخارج منها، مذكراً بالحاجز الذي كان قد حوّل جرمانا إلى ما يشبه السجن خصوصاً بعد إغلاق كل الطرق الأخرى منها وإليها.

أيام "عز الحاجز" اعتكف معظم ساكنيها من المهجرين أو سكان المدينة داخلها لأسباب شتى كالخدمة الإلزامية؛ لم تكن تعدم المدينة حينها ما يسمى بالحواجز الطيارة، لكن الخبر كان ينتشر بسرعة لدرجة تخلو المدينة خلال دقائق إلا من المراهقين والعجزة وبعض الشبان الفلسطينيين العالقين في سوريا.

ما زال البعض يتعامل مع إزالة الحواجز بحذر وتوجس، وكأنها هي الأمر الطبيعي وإزالتها أمر مربك، ويتوجس البعض الآخر من إزالتها خوفاً من أن تكون مقدمة لتفجيرات مفتعلة أو سيارات مفخخة.

منطقة الدويلعة تحولت حواجزها إلى ما يشبه الخرائب، غرف صغيرة من البلوك يجلس فيها عسكري يشرب المتة، أحياناً تجده واقفاً ينظم المرور، وكأنه يبحث عما يثبت وجوده الذي اضمحل بعد أن كان له سطوة على كل عابر إلى المنطقة. "هل صار بإمكاننا التحرك بحرية على الأقل داخل هذا السجن الكبير؟" يتساءل سعيد الذي ما زال يتنقل مشياً على الأقدام في الأزقة والحارات، "آخر مرة ركبت سرفيس بال 2015" حينها كان تركيز الحواجز على التفييش للمشاة وركاب التكسي لأسباب غير مفهومة، "يمكن مرة أو مرتين ركبت سرفيس أو حتى تكسي".

يعيش سعيد في جرمانا منذ بداية الثورة، وحين تخلف عن الخدمة الإلزامية في 2012 لم يدخل دمشق إلا مشياً على الأقدام: " تعودت عالمشي، وتعودت عالحبس، وعالاقل هلق في كتار متلي".

سالم الذي يعيش في الدويلعة اعتقل لعامين وخرج، لكنه لم يستطع الحصول على (كف بحث). "على ما يبدو لسه في شي فرع بدو ياني" سالم لم يرَ دمشق منذ خروجه من المعتقل قبل ثلاث سنوات، ولم يستطع زيارة والده العاجز في حمص قبل موته، ولم يحضر جنازته: "حاولت أمن هوية حدا شبيه مشان إطلع فيها، بس ما لحقت.. توفي الوالد قبل ما شوفو".

لم تستطع سعاد النازحة من دير الزور أن تخفي بهجتها، تذمرت من كل شيء حتى الطقس، لكنها كادت تقفز من الفرح حين حدثتني عن إحساسها وهي تدخل جرمانا دون حاجز "ما بعرف كم مرة نزلوني من السرفيس مشان يفيشولي بسبب وبلا سبب".

بهجة سعاد جعلتني أركب السرفيس إلى هناك كي أخوض التجربة بنفسي، مجرد بهجة مؤقتة في مسيرة الآلام.