«فتنة» داعش
(1 من 3)
مداخل نفسية
تصدّر تنظيم «الدولة الإسلامية»، والمعروف اختصاراً بداعش، واجهة المشهد في سورية ومحيطها في الأشهر الثلاثة الأخيرة، عندما سيطر على مساحاتٍ واسعةٍ من الأراضي السورية والعراقية، وانتقل من مرحلة الكمون والقضم التدريجيّ للمناطق السورية المحرّرة، إلى مرحلة الهجوم المستذئب على شتى الجبهات، ففتح معركته مع نظام بشار الأسد، وصعّدها مع حكومة نوري المالكي في العراق، ولم يستبعد الأراضي اللبنانية.
ولسنا هنا بصـدد الـظروف العسكرية والسياسية التي أتاحت هذا التوسّع السرطانيّ، ولا بصدد استقراء مستقبل التنظيم بعدما عمل بشراسةٍ على استفزاز كميةٍ غير متصوّرةٍ من الأعداء، ولكننا نعنى هنا بقراءة واقعٍ مواكبٍ لهذه الأشهر الصاخبة، بات ملحوظاً بشدّةٍ في أوساط الثوّار والناشطين، وهو تحوّل هذا التنظيم إلى موضوع جدالاتٍ عنيفةٍ، ووقوع عددٍ كبيرٍ من ثوّار الأمس أسارى مسحورين بقوّته الحقيقة أو المدّعاة، وتسرّب أمارات الإعجاب المضمر حتى إلى ثنايا خطاب أعدائه. ولهذا نصف هذه الحالة من الخلاف الموّار حول التنظيم بـ«الفتنة»، التي يكثر فيها الهرج والمرج، وتُمتحن النفوس والعقول، ويهوي على نارها الكثيرون مجذوبين بقوىً من المشاعر ذات الطابع الاستحواذيّ.
ولهذه الظاهرة أسبابٌ متعدّدة، يجدر الاعتناء بها لتفكيكها وإخراجها من دائرة الشعور إلى نطاق التعقّل. وربما كانت أبرز هذه الأسباب هي:
1- عبادة القوّة: وهو أمرٌ من طبائع الشعوب على العموم، ما لم تسلك في التحضّر واحترام القيم مرتقىً رفيعاً. ومن البديهيّ أن حالنا ليست كذلك، بدءاً من انسحار قسمٍ كبيرٍ منّا بصدّام حسين، وتداول القصص الحقيقة أو المختلقة عن قوّته وقوّة جيشـ«ـه»، وصولاً إلى تأييد معظمنا لحسن نصر الله، وتغنّينا بأساطير «أبطال المقاومة»، قبل أن نراهم يقتلوننا بدمٍ باردٍ في القصير ويبرود وعرسال... إلخ.
2- الوقـــــوع في ســــحر الإخــــــلاص والتفاني: ويعود هذا أيضاً إلى عقودٍ طويلةٍ من التكاسل والتواكل والتهرّب من أداء الأعمال، فضلاً عن إتقانها، عشناها في ظلّ البعث وعقلية القطّاع العام التي حكمت أداء الدولة فيه، وعقلية «الفهلوة» التي حكمت القطّاع الخاصّ، وبالارتكازٍ إلى قرونٍ طويلةٍ من الانحطاط وشيوع حالة المحافظة على أبخس شروط العيش ولو على حساب العقيدة أو القيم أو الكرامة. ومن هنا فمن الطبيعي أن يداخلنا الشعور بالصَغار أمام من نراه قد «ترك الدنيا» من المهاجرين، ولا سيما الغربيين والمتنعمين منهم، وجاء مستعداً للموت في سبيل ما يؤمن به من عقيدة. ولهذا الصَغار أثرٌ مربكٌ يمنع كثيراً من المحاكمات العقلية: أيّة دنيا تركها هذا المراهق التونسيّ، أو السجين السابق والمراقب من أجهزة الأمن السعوديّ؟ وما هي عقيدته حقيقةً؟ وما هو أثر وجوده وسلوكه علينا؟
3- التماهـي بالمعتدي: وهي آليةٌ نفسيةٌ معروفة، خلاصتها أن هزيمة المرء أمام شخصٍ ما، أو الجماعة أمام جماعةٍ أخرى، تثير في نفس المهزوم إهانةً لا يمحوها إلا الانتصار عليه بدرجةٍ أشدّ. فإن بدا هذا الانتصار غير واضح المعالم على المدى المنظور، يقع المهزوم في أسر المعتدي على الصعيد النفسيّ، ويمتصّ سلوكاته ونمطه ويتمثّلها في شخصه هو، مستمداً منها القوّة والتوازن والتعافي من الشعور بالإهانة. وتحت هذا التصنيف يدخل كثيرٌ ممن هزمتهم داعش، سواءً في المعارك العسكرية أو على صعيد مشروعهم الثوريّ الذي بات منهكاً. فصار القفز من المركب الذي أتعبته رياح السنوات الثلاث الماضية، والانضواء تحت الراية السوداء التي تبدو الآن شابةً إلى درجةٍ ضاجّة، خياراً لبعض من لم تتحمّل نفوسهم الجَزر، ولم تطِق الصبر والإعداد لمدٍّ جديد. مثلما كان استخدام اللهجة العلوية والانتحال النفسيّ لشخصية رجل الأمن خيار كثيرٍ من السوريين تحت حكم الأسد.
4- البحث عن «الدولة»: لا يذكر معظم السوريين نموذجاً للحياة العامة سوى تلك الدولة المركزية التي حكمت البلاد منذ سيطر حزب البعث على السلطة، والتي ازدادت شموليتها في السنوات المفصلية من حكم حافظ الأسد، ولم يفككها حكم ابنه بقدر ما جمّلها ببعض الرتوش الملوّنة. ولذلك وقع أبناء المناطق المحرّرة، وقد طال بها الوقت دون سلطةٍ بديلة، في أشكالٍ متعدّدة من الفوضى العسكرية والإدارية والخدمية، نتيجة عدم الاعتياد على المبادرة والابتكار والعمل الجماعيّ... إلخ. ومن هنا كان من السهل على الكثيرين، بل كان مطلبهم، العودة إلى ظلّ «دولة»، وهو ما انتحله لنفسه هذا التنظيم. وكما كان النظام يفعل، ابتزّت داعش الناس بقدرتها على تحقيق «الاستقرار» وتوفير «الأمن»، ولو بالصلب وقطع الرؤوس، ودون تقديم ما كان النظام يؤمّنه من خدماتٍ بائسةٍ حتى.
وللحديث تتمّة...