من جوانب واقعية، تضافرت عدّة عوامل في مسار الثورة السورية على الأرض، أدّت إلى وقوع عددٍ من أبنائها أسرى ما أسميناه «فتنة» داعش. ولعلّ أبرز هذه العوامل هي التالية:
1- وحشــية نظام بشار الأسد وأنصاره: من المعروف أن الثورة السورية بدأت بالفعل كثورة شعبٍ أعزل في مواجهة ترسانةٍ مدججةٍ بالأسلحة والعصبية الطائفية والتعنّت الذي لا يرى للناس حقوقاً إلا ما يمنّ عليهم به من فتات. وقد استخدم النظام دوماً عتبةً أعلى من القمع كلما زادت الاحتجاجات ضدّه. فمنذ البداية نشطت أجهزته الأمنية المتكاثرة في الاعتقال والتعذيب والإهانة. وبمجرّد ما كانت هذه الأجهزة تشعر باحتمال خروج الوضع عن السيطرة، هنا أو هناك، كانت تلجأ إلى قنص الأشخاص المركزيين في بؤر التظاهر، وتفريق جموعهم بالرصاص الحيّ. وما أن استخرج بعض الثائرين بنادقهم الصدئة حتى نزل الجيش إلى الشوارع وسيطر على المدن. وما أن رفض أفرادٌ من هذا الجيش استخدامهم كآلة قتلٍ وقمعٍ، وانضموا إلى أهلهم الثوّار، حتى أخذ النظام يقصف التجمعات السكنية بالسلاح الثقيل. وما أن خرجت مدنٌ عن سيطرته حتى أمر الطائرات الحربية بالانطلاق نحوها. وما أن اختلّت موازين القوى لغير صالحه حتى استقدم الميليشيات الطائفية من العراق ولبنان وسواهما، ليكملوا ما بدأه شبّيحته وعناصر دفاعه «الوطنيّ» من ذبح الناس بطرقٍ وحشيةٍ شكّلت صدماتٍ عميقةً وأورثت ذهولاً مخيفاً في نفوس جمهور الثائرين. ولنتذكر هنا سلسلة مجازر السكاكين التي حصلت في حمص وأريافها. فهل نستغرب بعد هذه المشاهد الدموية، التي أضحت يوميةً، أن يفتح عددٌ من السوريين أذرعهم للنصير الذي جاء من أقاصي الأرض، في صورة مهاجرين متفانين أشدّاء، يعالجون العدوّ بمثل ما يفعل وهم يصرخون: «بالذبح جيناكم»؟
2- تلكؤ المجتمع الدوليّ عن الــتدخل الفاعل: رغم أرضيةٍ من التشكيك في نزاهة الغرب، ورثها السوريون من تربية البعث ومن الرؤية السياسية لنظام الأسدين، فقد عوّل جمهور الثورة على تدخّلٍ يشبه ما سبق أن حدث في ليبيا، ينقذهم من الوحشية المتنامية الموصوفة فيما سبق. فماذا كانت النتيجة؟ أهو سوء حظّ السوريين أن وقعوا بين انكفاء «الحقبة الأوبامية» واليقظة المفاجئة لروسيا وعدم رغبة الدول الوازنة في التدخل، أو عدم قدرتها على ذلك بشكلٍ مؤثر؟ أم هو خطأهم إذ لم ينتجوا قياداتٍ مقنعةً ومشاريع معقولةً لإدارة البلد في مرحلةٍ انتقاليةٍ مفترضة، والحفاظ على بنى الدولة فيها، وعدم تشكيلها خطراً على دول الجوار وسواها؟ المهم أنهم في النتيجة لم يحصلوا على ما أرادوه من بسط أدنى درجات الحماية على مدنهم التي تتعرّض لكلّ أنواع القصف، فاستصرخوا العون حتى من «الشيطان».
3- تراجع فعاليــــة القوى المسـلحة للثـــورة: ارتفعت شعبية، وإنجازات، المظلة الواسعة للمقاتلين ضد النظام، والتي عرفت بالاسم الفضفاض «الجيش الحرّ»، خلال سنةٍ أو أكثر من نشوء هذه القوى. ولكن، ما إن تحرّرت مناطق، واستقرّ الوضع فيها عسكرياً، حتى بدأت عيوب هذه القوى بالظهور؛ كالفوضى وغياب القيادة المركزية الضابطة، التي تمنع أفراداً من هذه القوى من الظلم العشوائيّ لمحكوميهم الجدد من الأهالي، إلى سيطرة الكتائب على ما ورثته بالقوة عن الدولة/ النظام من مقرّاتٍ وتجهيزاتٍ، بل وآبار نفط، وصولاً إلى إخلاد كثيرٍ من التشكيلات إلى واقع الحال، والاكتفاء بالمرابطة الروتينية وغير المجدية على الجبهات التي أخذت بالاستنقاع، مع كلفةٍ بشريةٍ مستمرّة، واستمرار معظم أبناء المناطق المحرّرة في حياة الطوارئ. ومن هنا نجمت الحاجة إلى قوّةٍ حاسمة، وهو ما قدّمت داعش نفسها به.
4- الأداء العسكريّ للتنظيم: الذي استفاد من الإنهاك الذي أصاب خصميه؛ قوى الثورة وقوّات النظام. بل إنه تجنّب الصدام مع هذا الأخير طويلاً ما دام قوياً –مما أطلق أوهاماً عن عمالةٍ وخططٍ تآمريةٍ مشتركة- بهدف اقتصاد الإمكانيات وعدم الدخول في معارك مكلفة. وبالفعل، نلحظ أن مخطط التنظيم هو حشد قدرٍ كبيرٍ من القوة لمهاجمة نقطةٍ منفردةٍ وسحقها بأكبر درجةٍ ممكنة، كما العناية بالسيطرة على النقاط الاستراتيجية في المعارك، كالبوابات الحدودية وخطوط الإمداد ومخازن الأسلحة. وقد أثارت هذه القوّة المنظّمة -التي حرص التنظيم على مواكبتها بأفضل دعايةٍ ومبالغاتٍ ممكنة، لتقريبها من صورة القوّة التي لا تقهر- إعجاب مقاتلين استهلكت المرابطة ونقص الذخيرة أيامهم، فانضووا تحت الركب الذي بدا أنه الأقوى، ولا سيما بعدما فتح التنظيم معاركه مع النظام أخيراً.
وللحديث تتمة...