«شباب الثورة» من التنسيقيّة إلى المنظمات الأجنبيّة الداعمة

يشيـــع القـــول إن الشـباب هم "وقود الثورة" عموماً، أية ثورةٍ وفي أيّ مكانٍ وزمان. ويستند هذا القول إلى ما تتّسم به هذه الشريحة العمرية، عادةً، من الحماس والجرأة والرفض، فضلاً عن طزاجة القيم والرغبة في الحياة الإنسانية الحرّة الكريمة، قبل أن تنهكهم المصالحات والتوافقات التي تتراكم على روح المرء مع التقدّم في العمر. وقد أثبتت ثورات البشرية صحّة هذه القاعدة، كما فعلت ذلك ثورات الربيع العربيّ، وصولاً إلى الثورة السورية التي بدأت مظاهراتها بمجموعاتٍ من الشباب المخلص المتحمّس، كصاعقٍ ألهب حماس السكان الذين باتوا يخرجون مجموعاتٍ إلى ساحات الاحتجاج الحاشدة، خلال السنة الأولى.
ولكن طول أمد الثورة –مرّةً أخرى، ودائماً- والقمع المتزايد وغير المتناسب مع طبيعة الاحتجاج، نقل هؤلاء الشباب من الصيغة الأولى البسيطة للاعتراض على النظام إلى أشكالٍ أعقد وأشدّ خطورةً. وتفرّعت مسالكُ ما بدا سهلاً في البداية (ساحة تحريرٍ سوريةٌ تحفل بالمنصّات والأغاني والفرح الحرّ، مع بعض القنابل المسيلة للدموع...) إلى غابةٍ من الدروب التي لا تتضّح لها نهاية؛ من المجموعات المسلحة المرتجلة إلى كتائب وألويةٍ و"جيوش"، ومن المساعدات شبه الشخصية للمطلوبين إلى منظماتٍ يصعب حصرها، ومن كاميرا الموبايل إلى دورات تأهيل "الإعلاميين" وانتظامهم في شبكات مراسلين برواتب، ومن الشوارع الرئيسية في المدن إلى زواريبها، وصولاً إلى عنتاب واسطنبول وبيروت وسواها، ومن التنسيقيات إلى داعش.
لا شكّ أنه مشهدٌ مدوّخٌ، ولا سيما عندما يلقي ثقله على كواهل شبابٍ في العشرينيّات من العمر، دخلوا هذه الدوّامة دون تأهيلٍ يذكر، وباتوا يرقبون سنين العمر "الحاسمة" تمضي وهم دون شهادةٍ جامعيةٍ، إذ اضطرّ معظمهم إلى ترك الدراسة بسبب الملاحقة أو خوفاً منها، ودون مهنةٍ واضحة، ودون مخططٍ مقبولٍ ومطمئنٍ للسنوات التالية. وإذا كانت الأشهر الأولى قد حملت الواحد منهم على جناحيّ موجة النبل الجماعيّ التي اجتاحت جمهور الثورة، وأزاحت التفكير في كلّ القضايا الشخصية؛ فإن النوازع صارت تطلّ برأسها، وتقوى مع مرور الأيام وبُعد المسافة عن أرض الثورة ومجرياتها اليومية ومزاجها الخاصّ. وإذ بالشابّ (والشابة، تماشياً مع النسويين) يعاوده ميله "الطبيعيّ" إلى الاستعراض، كيف لا وقد أتاح له "دوره" (الحقيقيّ أو المزعوم) في الثورة، وعدد أصدقائه الفايسبوكيين من الشهداء، فرصةً فسيحة. وإذ به، حين يعمل في الإغاثة أو الإعلام، يحرص بعنايةٍ على أن يفصل نفسه عن "مادته" من البشر، هنداماً وتجهيزاتٍ تواصليةً وسوى ذلك من "إكسسوارات" الناشط المنفيّ. وإذ به بحاجةٍ إلى الحبّ والبحث عن الزواج، إلى جانب نصف دزينةٍ من العلاقات أتاحتها ظروف العمل للثورة ووسائل التواصل والفوضى الاجتماعية. كما أنه بحاجةٍ إلى الشهادة الجامعية، التي صار يحصّلها بمجرّد الادعاء الشفويّ المباشر، أو بالشراء من السوق المفتوحة الناشئة لتزوير الوثائق السورية، أو بتعويضها عبر مجموعةٍ كبيرةٍ من وثائق حضور "دورات التدريب"، تملأ سيرةً ذاتيةً باهرةً وأكثر.
وعلى الطـرف الآخــر جـاءت المنظمات الأجنبية. ودون الدخول في الكلام الغامض والعشوائيّ عن ما يهتمّ منها بتجنيد المتعاملين، فقد قدّمت هذه المنظمات، بأدائها المرتبك وتلمّسها الطريق في وسطٍ لا تمتلك له خريطةً سابقة، للناشط المنفيّ اليوم/ الثائر حقيقةً أو زعماً بالأمس، دون قصدٍ، كلّ ما قد يحتاجه لكي تفسد روحه؛ العلاقات مع المنظمات الدولية ومسؤولي الخارجيات وموفديها، والتقدير والاحترام والندّية التي لم تكن ضمن أحلامه حتى، ومجموعةً كاملةً من الإكسسوارات، مع القابلية الدائمة للتطوير، سواءً من المنظمة نفسها أم عبر التنقّل بين المنظمات، وهو الأشيع، وأخيراً... المال اللازم ليغطّي كل ما سبق من احتياجاتٍ، ولينفصل شعورياً عن ما بات يسمّيه "الداخل". وما الذي يبغيه ناشطنا أكثر من هذا؟ بعد أن "سُرقت ثورته" وهام في الشتات الإقليميّ القريب وعينُه على المهجر الأوروبيّ البعيد، ليرتّب أوضاعه هناك ويعود إلى "باب رزقه الجميل".
ولكن، هل هؤلاء فقط هم "شباب الثورة"؟ بالتأكيد لا. فنظرةٌ واحدةٌ إلى فيديوهات انتصارات الثوّار على قوّات الأسد متعدّدة الجنسيات كفيلةٌ بإبعاد كلّ صور السخف هذه، وبتجديد الثقة بعزائم عشرات آلاف المقاتلين الشبان. وجلسةٌ واحدةٌ في إحدى مقاهي عامّة السوريين في اسطنبول، وسط عددٍ لا ينتهي من الشبّان الباحثين عن عملٍ بأبخس الأجور وسكنٍ بأردأ الظروف، كفيلةُ بالقول إن مئات الآلاف من هؤلاء لن يسكتوا طويلاً عن غيّ الناشط الناطق المزعوم باسمهم.