(200) دولار من سعد الحريري و (200) ليرة لرامي مخلوف

(200) ليرة اشتريت بها علبة السجائر، هي كل ما كنت أملكه يوم الضربة الأمريكية، التي خيبت توقعاتي بأن تأثراً ما سيحدث، ولو حتى زيادة في الأسعار أو انقطاعاً لبعض المواد، ولكن أياً من ذلك لم يحدث. لا أُنكر الأصوات التي أيّدت هنا والتي أدانت هناك، عدا عن ذلك لم يحدث أي شيء. لا خوف ولا انفعال ولا ترقب. نظرة الكآبة التي تعتلي وجوه الجميع قبل الضربة هي ذاتها بعد الضربة، لأن 200 ألف ليرة لا يملكها إلا قلة قليلة، هي لا تكفي حتى لتحيا حياة يشوبها الذل، فلا حياة كريمة زمن الحرب.

تزامنت الضربة مع ذكرى لا أنساها، وهي اعتقالي مع عشرات الشبان في عام 2011 من إحدى المظاهرات في مدينة دمشق. خرجتُ بعد أسابيع قليلة، وبكلّ براعة طُردت من عملي في أحد محلات دمشق القديمة، إذ بدأ ربّ العمل بمنحي إجازة لكي أرتاح، وبعد ذلك بأيام اتصل بي ليشكو من تدهور أحواله، وأخبرني أنه استغنى عن خدماتي، ولم يعدْ للاتصال بي بعدها على الإطلاق. بنفس البراعة طردني صاحب البيت بعد أن هنأني بالسلامة، ثم شكا لي سوء أحواله، وأنه يريد بيع البيت لأخيه المتطوع في الأمن، ما يعني أنني لا أستطيع الرفض على الرغم من عقد الإيجار الذي لا تنتهي صلاحيته قبل عدة شهور. أذكر أن أحد السجناء قال لي إننا في الفرع 215، وخطر ببالي حينها أنه مجموع علاماتي في البكالوريا.

عندما نجحت أول مرة خابت توقعات جميع من حولي بعلاماتي لأنها أقل من 200 درجة. حفرتُ حفرة بعمق متر ونصف بأجرتي وهي 200ليرة. انتهيت من العمل مع عودة الطلاب من المدرسة، حيث فاجأتني إحدى المعلمات، إذ عرجت على الحفرة وتمتمت ثم تابعت طريقها دون انتظار الردّ، قالت «هادا اللي ما بجيب علامات هيك بصير فيه».

نجاحي الثاني بالبكالوريا خيّب التوقعات أيضاً بعلاماتي لأنها أكثر من 200 درجة. قررتُ الالتحاق بالجامعة بغض النظر عن الفرع، فقد كان اهتمامي منصباً على الخروج من تلك الحفرة المحفورة من زمن الأجداد، غير مُدرك لحقيقة أن الحُفر التي أمامي أعمق، وأن تجاوزها أصعب.

في ربيع  2011هتفتُ للحرية وللثورة السلمية، هتفتُ لدرعا. لكن تهمتي في الفرع كانت تلقّي 200 دولار من سعد الحريري للمشاركة في مظاهرة ضد النظام، «هي السكسوكة سعودية؟» كان يسألني المحقق وهو يقتلعُ بيده شعر ذقني وشاربيّ.

 200دولار كانت تُعادل عشرة آلاف ليرة في ذلك الوقت. كان الرقم بحد ذاته إهانة، فلم تكن عشرة آلاف تكفي للعيش في حدوده الدنيا للمدة التي قضيتها في حفرة الفرع 215. لكنه الرقم الذي وجده المحقق مناسباً للمخاطرة التي قمت بها، الرقم الذي وضعه ثمناً مبالغاً فيه لحياتي البائسة.

تعقدت الأوضاع مع بداية الحرب، وبدأ انهيار سعر الليرة السريع يُطارد الشعب مثل أي شبيح خرج ليقمع مظاهرة. صارت شوادر الأمم المتحدة منظراً مألوفاً أكثر من صور المرشحين للانتخابات، والإعلانات الطرقية. وعاد شعر لحيتي، وعادت فرص العمل للظهور بعد غياب طويل توالت فيه الأحداث وصولاً إلى حالة اكتئاب جماعي لا تصعب ملاحظته أينما يممت وجهك. فرص العمل تلك بأجورها المتواضعة هي ذات الفرص القديمة التي يشاء لها ألا تكفي، وعليك أن تكون ممتناً على الرغم من ذلك. في آخر مقابلة عمل أجريتها مع محامي شركات، أخبرني أن رؤوس الأموال غادرت البلد، وحثني على البحث عن وظيفة في الدولة «في كتير مسابقات ليش ما بتقدم؟»

 200ليرة رصيد موبايل لشركة سيرياتل المملوكة لرامي مخلوف، لأتمكن من الاتصال بمن تبقى من الأصدقاء لاستدانة أجرة البيت، منتهزاً أنني أدفع أجرة بيتي منتصف الشهر، بينما يدفع أصدقائي التزاماتهم أول الشهر. بين بسطات التعفيش وحاويات القمامة وجدت ليرتين «200 قرش» عديمة القيمة تماماً، لكنها ذكرتني بمزاح أحد الأصدقاء بأن أطالب سعد الحريري بـ الـ 200 دولار التي اعتقلت ولم آخذها..