عدسة أحمد - دير الزور
لا تسكن في الطوابق العلويّة... لا تسكن أمام مناطق مكشوفة.. يجب أن تبحث عن منزلٍ يعاكس اتجاه القذائف... تجنّب المنازل العربية القديمة؛ تلك قواعد أساسيةٌ عليك أن تلمّ بها قبل السكن في مدينة دير الزور التي تتعرّض للقصف منذ عشرين شهراً.
وتتفق هذه القواعد مع ما تفرضه ظروف الحرب والقصف، إلا أن العديد من الناس يشذّون عن هذا المنطق الذي لا يفتأ الآخرون يسمعونهم إياه في كل مصادفةٍ تجمعهم أثناء استراحة جنود المدافع فوق الجبل.
يسكن المدينة قرابة الخمسة آلاف عائلة، حسب إحصاءات المجلس المحليّ، تتوزّع في الأحياء الممتدة من جنوب المدينة إلى شمالها، إذ إن خطوط النار تقع في الأحياء الغربية والشرقية. إلا أن أمزجة السكان تختلف في تفضيلاتهم لمواقع المنازل التي يقطنونها، فنجد بينهم من لم يغادر منزله رغم أنه يقع في مستوىً مرتفعٍ من البناء، مما يشكل خطراً كبيراً أثناء القصف. يتذرّع الواحد منهم أنه لا يرتاح إلا في منزله، وهو ليس مستعداً لمغادرته مهما كان السبب. ويذهب بعضهم إلى أنهم مستعدون للموت تحت ركام منازلهم. وأكثر هؤلاء تمسكاً ببيوتهم هو العم أبو حسين، الذي يتجاوز السبعين من العمر ويسكن في منزله القديم المبنيّ من الطوب، الذي لن يصمد أمام أيّة قذيفة. رفض أبو حسين ترك المنزل الذي تربطه به ذكرياتٌ كثيرة، فقد ورثه عن أجداده الذين يعلق صورهم على الحيطان. يقول: "عشت أعواماً طويلةً وأنا أتمنى أن تُطلق رصاصةٌ واحدةٌ في وجه هذا النظام القاتل. والآن، عندما تحققت تلك الأمنية، فإن آخر همّي هو البحث المنزل الآمن. وإن مت، فليكن موتي حياةً لطالبيها".
لو تتبعنا طريقة سكن الناس لوجدنا أن الجهة التي يتم منها القصف على المدينة هي التي تفرض مواقع المنازل التي يجب أن يسكنوا فيها. وقد تتغير هذه الجهات تبعاً لتقدّم جيش النظام أو لتحرير الثوّار مناطق جديدة. منذ عدة أشهرٍ يفضّل الناس السكن في المنازل ذات الواجهات الشمالية، لأن القصف يأتي من الجهة الجنوبية.
وإذ يُعتبر هذا المحدِّد الأساسيَّ للسكن، إلا أننا نجد محدّداتٍ أخرى ترتبط بمخاوف الناس أيضاً؛ فأكثرهم لا يفضلون السكن بجانب مقرّات الكتائب أو المكاتب الإعلامية، ظناً منهم أنها أكثر استهدافاً من غيرها. وإن كانت لهم حجةٌ وجيهةٌ في العزوف عن السكن بجوار مقرّات الكتائب، إلا أن حجتهم الغريبة في تجنب السكن بالقرب من المكاتب الإعلامية هي اعتقادهم أن النظام يستطيع التقاط إشارة أجهزة الإنترنت الفضائيّ فيقوم بتحديد أماكنها بدقةٍ ثم قصفها. وتسعى بعض العوائل إلى السكن بجوار مقارّ الهيئات الإغاثية لتسهيل حصولها على المعونات الغذائية باستمرار. أما البعض الآخر فإنه يفضّل السكن ضمن ما يسمى بـ"المربع الأمني" في المدينة (الهيئة الشرعية)، لأنه يتمتع – باعتقادهم - بميزاتٍ خاصة، منها عدم انقطاع الكهرباء، أو توافر الأمان الشخصيّ، فلا يجرؤ اللصوص على الاقتراب منهم.
ولكن موضوع السكن تحت القصف يتعدّى تفضيلات الناس، إذ إن القسم الأكبر من العوائل المتبقية في الأحياء المحرّرة لا تقطن في منازلها الأصلية، إما لأنها تعرّضت للدمار، أو تقع في الأحياء التي يسيطر عليها النظام، أو بالقرب من جبهات القتال. وهؤلاء انقسموا إلى صنفين، أحدهما يتحرّى المنزل الأنسب دون استئذان أصحابه، مشرّعاً ذلك لنفسه بكونه بقي صامداً في المدينة، وأنه يقوم بدفع الفاتورة الأكبر من المعاناة، كما أنه يقوم بحماية المنزل من السرقة. والصنف الآخر على العكس من الأول، يفضّل الموت على أن يقطن في منزلٍ دون موافقة أصحابه، بالرغم من صعوبة الحصول عليها في ظلّ انقطاع الاتصالات والمواصلات، أو نزوح أصحاب المنزل إلى مناطق مجهولة.
عموماً، سواءً أكان الأمر يتعلق بأساليب تفــــضيل الســــكن تحت الحرب أم بطريقة الحصول عليه، فإن للـــــناس شـــــؤوناً ومـــــذاهب تتراوح بين المنطـــــق والغرابة والمكابــــــرة الخـــــطرة. وفي النهاية هؤلاء هم السوريون، وتلك هي معاناتهم في ثورتهم اليتيمة.