يومٌ في البوكمال في ساحة "الفيحا" تتسارع يوميّات المدينة

البوكمال - ساحة الفيحا

"إن شرب الشاي هواية وهمّ جميع سكان البوكمال، والمقاهي عدوى انتقلت إليهم من عاصمتهم دير الزور- مستنقع الشاي"*
هكذا نفّس المؤرخ عبد القادر عياش عن غضبه من تعلق البوكماليين بشرب الشاي وقضائهم وقتاً طويلاً في المقاهي. عقودٌ طويلةٌ مرّت على نقد عياش، لم يضطرب خلالها ذلك التعلق، إلا باحتلال تنظيم "الدولة الإسلامية" للمدينة قبل أشهر، وفرضه لقوانين جديدةٍ وغريبةٍ على السكان.

في مقهى البلدية، أعرق مقاهي البوكمال، تلحظ آثار هذه القوانين في تقلص عدد الزبائن وتحوّل المقهى من هدفٍ بحدّ ذاته إلى مجرّد محطة انتظارٍ لعابرين يلبثون قليلاً ثم يذهبون. ويُلحظ كذلك فشل محاولات من تبقى من الزبائن الأصليين في التكيّف مع الجلوس في المقهى بدون سجائر، إذ لا يلبث هؤلاء أيضاً أن يغادروا بعد أن يقوموا بواجب الزيارة المعتاد إلى المكان الذي يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى أطلالٍ قد ترى فيها داعش ذات يومٍ جدراناً لا معنى لها فتستعملها لشأنٍ آخر.
في ساحة "الفيحا" الملاصقة لـ"قهوة" البلدية تعطي عربات الخضار وصيحات الباعة انطباعاً مختلفاً، فالحياة لم تتوقف في البوكمال بل استمرّت وإن على طريقة داعش وتحت سيطرتها. لهذه الساحة تاريخٌ يمتدّ إلى السنوات الأولى من عمر المدينة. ولها أيضاً تقديرٌ خاصٌّ في وجدان أبنائها المعاصرين، حين تظاهروا منها ضدّ حكم بشار الأسد. قبل أن تدشّن جبهة النصرة أوّل عملية إعدامٍ علنيةٍ فيها بحقّ متهمٍ جنائيٍّ، في حفلةٍ استعراضيةٍ أريد بها وقتذاك فرض الهيبة أكثر من معاقبة مجرم. وجاءت "الفيحا" مطابقةً لمقاييس داعش لتُجري فيها، هي الأخرى، مهرجانات موتها وبأسلوبها الخاص في الصلب وقطع الرؤوس. وتعمل اليوم، ووفق أسلوبها الخاصّ أيضاً، على استقطاب مؤيدين وأنصار لها من الساحة، حيث تقيم، بشكل شبه يوميٍّ، أمسيات دعايةٍ وترويجٍ من خلال نقاطها الإعلامية الثابتة والمتنقلة التي تثير فضول الأطفال والمراهقين، وتلبّي لهم رغبة التسكع مساءً خارج المنزل. وعلى شاشاتٍ كبيرةٍ تعرض أفلاماً معدّةً من مشاهد حقيقيةٍ لمعارك أو عمليات إعدامٍ جماعيٍّ أو أسواق وشوارع من المدن و"الولايات" الواقعة تحت سيطرتها. وإلى جانب الأفلام يقدّم "دعويون لطفاء" أحكاماً فقهيةً عبر منشوراتٍ توزّع بأعدادٍ هائلةٍ وعلى نطاقٍ واسع.
يحاول الآباء تجنيب أبنائهم هذا النوع من الدعاية، لكن هذه المحاولات تخترق دوماً بتمرّد الأطفال، وخاصةً بعد أن توقّف التعليم في المدارس، ومنح الطلاب عطلةً إلى حين استكمال المناهج التعليمية الجديدة.
في الشوارع تعمل بعض آليات النظافة والأشغال العامة التي تحمل لوحاتٍ عراقية، فالبوكمال جزءٌ من ولاية الفرات التي تضمّ مناطق على جانبي الحدود. وبينما يتباهى إعلاميو هذه "الولاية" بإنجازات مكتب خدمات المسلمين فيها، لا يبدو السكان في وارد الحفاوة بما تقوم به داعش في هذا الجانب، وهي من قتلت أكثر من مئةٍ وخمسين من أبناء المدينة في هجماتها الدامية قبل أن تسيطر عليها.
ليلاً، وفي غرفةٍ واسعةٍ ومدفّأةٍ جيداً في شتاء البوكمال الجاف، نستمع إلى رجلٍ مسنٍّ عاصر سلطات حكمٍ متعدّدة، في تخفّفٍ من القيود التي تفرضها داعش خلال النهار، ورغم وجود مؤيدٍ لها بيننا. لاحظ الرجل أن أحداً من الرؤساء لم يقم بزيارة المدينة، وأن إهمال حافظ الأسد لها دفعها إلى محبة عدوّه صدام حسين. وذكر مزايا وعيوب كلّ حقبة من الحقب: "بالوحدة تفتّحت الناس شوي"، و"شفنا خير بدور الانفصال"، و"البعثيين بدور حافظ الأسد حرامية وكذابين"، و"بالثورة تأمّلنا نصير مثل باقي الدنيا لكن"... يتوقف الرجل قليلاً وهو ينظر إلى المؤيّد ثم يتابع كلامه: "لكن صارت فوضى واستغلوها هذول الدواعش". يصمت المؤيّد تأدباً مع الرجل الكبير الذي لم يتحدّث كثيراً عن داعش لأنه لم يفهمها، بحسب ما ظهر من حديثه، ولم يحاول ذلك. ففي هذه السنّ لا يرهق المرء نفسه بفهم ظواهر غريبةٍ وطارئةٍ مثل داعش.

*من كتاب حضارة وادي الفرات.