يوماً ما في داريا كيف تأسس المجلس المحلي وكيف كنا نتعاطى السياسة بكثير من الشغف وبعض الخداع؟

عقب صلاة تروايح إحدى ليالي رمضان 2012، وفي الطابق العلوي من جامع المصطفى، كنت في غاية التركيز وأنا أستمع إلى خمسة من مشايخ وأكاديميي داريا في بداية اجتماع هام، لعبت نتائجه الدور الأبرز في إدارة المرحلة القادمة من مجزرة داريا نهايات آب من ذلك العام، وحتى منتصف 2016 عند نهاية معركة داريا الكبرى.

أعلن هؤلاء الخمسة، الذين اعتبروا بمثابة محكمين حياديين، تأسيس المجلس المحلي لمدينة داريا؛ كانت هذه الفكرة بمثابة حلم يراود الثوار نتيجة تعمق الخلافات بين نشطاء المدينة، وفي المقابل نال المجلس في فترات لاحقة أكبر قدر ممكن من الاتهامات والشتائم المحقة أو البعيدة كل البعد عن الحقيقة.

بعد أن صلينا التراويح صعدنا إلى الأعلى، وتحلقّنا حول السادة المثقفين الخمسة؛ كان الحضور كبيراً ودسماً، فحضر جميع أعضاء "جماعة اللاعنف"، وهم طلاب الأستاذ عبد الأكرم السقا، وكانوا يديرون تنسيقية داريا، التابعة للجان التنسيق المحلية، في حين تغيّب بشار الفرخ -أو غُيّب- عن الحضور، ليتواجد بعض أعضاء جماعته المكونة من طلاب مساجد المدينة، وتدير (تنسيقية الشعب يريد إسقاط النظام)، وكانت مناوئة لجماعة اللاعنف. كان الفرخ يمتلك علاقات مالية قوية مع الخارج، وبالإمكان تسمية هذه الجماعة ب"تجمع طلاب المساجد".

رجل آخر ذو وزن كبير في ذلك الوقت لم يحضر.. إنه أبو تيسير زيادة، الذي أسس الجيش الحر في داريا، وكان يقود الكتيبة الوحيدة في المدينة حينها، كتيبة سعد بن أبي وقاص، ومع ذلك لم يكن متواجداً في أهم اجتماعات داريا.. كان لهذه "التجاوزات" أثرها فيما بعد على الواقع السياسي في داريا، إذ شكّل الفرخ وعدد من جماعته من جهة، وأبو تيسير وكتيبته من جهة أخرى، نواة صلبة للعمل المعارض ضد المجلس، الذي تعتبر دهاليز غرف الداعمين أحد أكبر ساحاته.

حضوري لم يكن مؤثراً، إلا في كوني قد رُشّحتُ من قبل "تجمع طلاب المساجد" لأكون ضمن كادر المكتب الإعلامي للمجلس.. كان العمل السياسي في بداياته حينها، وكان الجميع يعمل بنشاط لا نظير له  لتأسيس كيانات سياسية تتربع على عرش التأثير في مستقبل داريا بشكل خاص، والمنطقة بشكل عام.

أسّس "جماعة اللاعنف" تنسيقيتهم منذ بداية الثورة، وفي العام الثاني أعلنوا عن "مجلس ثوري" ضم نخبهم ونشطاءهم وإحدى أهم المؤسسات الصحفية التي لاتزال تعمل حتى اليوم وبزخم كبير، جريدة عنب بلدي. في نفس الوقت كان أفراد التجمع الآخر (بشار الفرخ، عبد المجيد أبو أحمد، وأشخاص آخرون) يحاولون صنع كيان مغاير تماماً، ومختلف عن الأفكار السلمية التي آمن بها أفراد التجمع الأول تأثراً بأستاذهم جودت سعيد؛ وبين الطرفين عمل بعض المثقفين وأساتذة المساجد في العمل السياسي والإغاثي، كما حاز أبو تيسير دعماً عسكرياً قوياً، وتواصلات كبيرة خسرها، من ثم، بعد تأسيس المجلس المحلي والإعلان عن الكتيبة التابعة له كتيبة شهداء داريا.

ضم المجلس المحلي عشرة مكاتب، أهمها العلاقات والإغاثة والإعلام والخدمات، إضافة للمكتب العسكري الذي كان يطلق عليه خلال الاجتماعات "المكتب العاشر"، دون توضيح سبب هذه التسمية. كان احتكاكي بالتجمعين جيداً، فقد زرت معتز مراد وهو أحد أبرز دعاة السلمية في بيته عدة مرات تعرفت فيها على بشار معضماني، أحد أبرز من تولوا مسألة الدعم العسكري عند حلول معركة داريا، كما عرفت محمد شحادة أبو يامن خلال الاجتماعات الأولى للمكتب الإعلامي، الذي انتخبناه رئيساً له في ليلة تأسيس المجلس.

على الطرف المقابل، دعيت أكثر من مرة لحضور اجتماعات التجمع الآخر، حيث كانوا يطلقون لقب "العلمانيين" على أعضاء جماعة اللاعنف، ويحاولون كسب المزيد من القوة لمواجهتهم، وإلغائهم من الواقع السياسي في داريا، وتأسيس جريدة مناهضة لعنب بلدي.. طلب مني في أحد هذه الاجتماعات مناقشة جريدة الصحوة التي أطلقوها بالتعاون مع الصحفي الحمصي علاء عرنوس، وقد كلفت برئاسة تحريرها، على الرغم من وجود عرنوس الذي لم أكن قد التقيت به بعد؛ ربما شعر أفراد التجمع بعدم انتماء عرنوس لهم فحاولوا "الانقلاب" عليه، لكني وفي أعقاب اللقاء الأول مع رئيس التحرير- آثرت العمل معه.. ربما يدل هذا المشهد على الطريقة البدائية في تعاطينا جميعاً مع العمل السياسي، حيث كانت الخطط تحضّر في السر، وتكثر "الانقلابات" التي ستتكرر مع دخول داريا مرحلة الكفاح المسلح والحصار، نهايات العام الثالث للثورة.

مع تسارع وتيرة الأحداث، التي بدأت بمعركة موسعة شنها النظام على المدينة في تشرين الثاني 2012، وانشغال الفصائل بالمقاومة على أكثر من جبهة- كان المسؤولون عن المجلس المحلي يعدّون الخطط لزيادة التمويل المالي والعسكري من جهة، ومن جهة سعى التجمع الجديد الذي سيطرت عليه "جماعة اللاعنف" إلى التخلص من الجماعات الأخرى، سواءً كانت سياسية أو عسكرية، بهدف توحيد الجهود ضمن إطار المجلس المحلي وذراعه العسكري كتيبة شهداء داريا، التي تطورت إلى لواء شهداء داريا، جراء انضمام أعداد كبيرة من المقاتلين.

كان الهدف الأول هو بشار الفرخ، الذي يدير التنسيقية المناوئة، ويحظى بشعبية جيدة لدى جماعته، وبمال سياسي وفير. وفي غضون أشهر قليلة أُقنع الفرخ بإلغاء التنسيقية بهدف توحيد الجهود، ما أضعف تمويله لدرجة أن الشاب الطموح هجر كل مشاريعه والتحق بجبهات القتال، كما أكّد لي في إحدى الجلسات التي جمعتني به في تلك الفترة؛ لكن ذلك لم يدم طويلاً، إذ كان يخطط للدخول في حلقة من التأثيرالسياسي عبر انخراطه بالعسكر. وبالفعل، غدا اليد اليمنى لأبو خالد شعيب قائد إحدى كتائب لواء شهداء الإسلام، وزاد تمويله الذي قدّم بعضه للكتيبة، بينما انهمك في تأسيس تجمع سياسي جديد أسماه "سنحيا كراما". عند وفاة شعيب أصبح الفرخ قائداً للكتيبة، ثم استشهد على جبهة القتال في العام الخامس للثورة.

تركت المكتب الإعلامي التابع للمجلس المحلي مبكراً، ولم تتجاوز الاجتماعات التي حضرتها أصابع اليدين. كان رئيس المكتب محمد شحادة متحدثاً بارعاً ولبقاً. تمكن من خلال عمله في الإعلام، من جعل المجلس المحلي الرقم الأصعب في هذا الجانب، لاسيما بعد التغطيات الصحفية التي قام بها المكتب الإعلامي بعد مجزرة داريا، وعند اندلاع المعركة؛ وطريقة شحادة في كسب التأييد للمكتب الإعلامي وللمجلس سيستخدمها مراراً في جعل الغالبية العظمى من شبان المدينة -ممن كانوا يتبعون لتجمع الطلاب- يتحلقون حوله، وينضمون لصفوف المجلس المحلي الذي غدا قوة ضاربة، وأدار المدينة لسنوات طويلة.

من أبرز الاحداث التي شهدتُها نهاية العام الثالث، ومع اشتداد الحصار على داريا، كانت المحاولة الانقلابية التي قام بها الملازم أول أبو شاهين، مع مجموعات انشقت عن لوائي الشهداء وسعد بن أبي وقاص، اعتقل من خلالها معتز مراد وبشار معضماني ومحمد شحادة وأبو تيسير زيادة وعدد من قادة لواء الشهداء. كانت تلك الليلة عصيبة بكل معنى الكلمة، إذ حشدت فصائل داريا قواتها وتمكنت من تحرير الرهائن، وعلى الفور أصدروا قراراً "بإهدار دم" أبو شاهين وستة من أعوانه، فردّ الأخير بالإعلان عن "لواء الأحرار" الذي دعمتُه على الصعيد الإعلامي فيما بعد، فقد كنت أبحث عن أي تشكيل عسكري ينقذ الأوضاع في داريا، ولم يكن امامي سوى هذا الضابط الذي يمتلك خبرة عسكرية، وخططاً جيدة لتحرير المدينة و لفك الحصار عنها، من وجهة نظري على الأقل.

تمكن أبو شاهين من الحصول على تمويل كبير بعد انضمامه إلى الجبهة الجنوبية. كنت مندفعاً للعمل معه، فتسلمت إدارة صفحة لواء الأحرار على أمل الترويج لهذه القوة الوليدة. ربما كان الخيار خاطئاً.. أتساءل في بعض الأحيان، لأن عناصر عديدة من اللواء كانت فاسدة بالفعل. ولكن جرأة الشباب -في تلك الفترة- على خوض غمار تحالفات غير محسوبة كانت تقود معظمنا؛ فإذا كنتُ قد عملت مع "لواء الأحرار"، فإن العديد من زملائي وأصدقائي التابعين للجهة المناوئة لجماعة اللاعنف، انخرطوا ولا يزالون في مشاريع هذه الجماعة.

على أي حال لم يدم مشروع لواء الأحرار طويلاً، فقد هوجم نهايات العام 2014، واعتقل معظم قياداته ولم يطلني الاعتقال، كوني كنت مقيماً في معضمية الشام، ونجوت بأعجوبة حين لم أفِ بوعدي لأبو شاهين بأن أزوره صبيحة يوم الهجوم.

بعد تقلص نفوذ الفرخ واعتقال أبو شاهين، لم يبقً سوى أبو تيسير ولوائه العسكري في مواجهة المجلس. يعتبر أبو تيسير في الحقيقة العدو اللدود للمجلس المحلي من ساعة تأسييسه، على الرغم من كونه قائد الجيش الحر، لكن تشكيل كتيبة شهداء داريا شجع عشرات المثقفين وغيرهم على ترك كتيبة سعد والانضمام إليها. أما أبو تيسير فكان قد زوّد مكتب العلاقات في المجلس -لدى تأسيسه- بالإيميلات وحسابات سكايب الخاصة بالجهات الداعمة، وهكذا بدأ تمويله يتقلص تدريجياً، إلى أن انقطع فترة طويلة من الزمن، ثم تعافى قليلاً مع تأسيس "الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام" وانخراط لوائه ضمن صفوفه.

ومع ضعف التمويل بدأ بعض المسؤولين ضمن لواء الشهداء بمحاولة استقطاب مجموعاته، وانفضت عنه العديد من السرايا، لدرجة أن (لواء سعد) تقلص إلى 25 مقاتلاً فقط في الفترة الأخيرة التي سبقت إخلاء المدينة. بل وجه المجلس المحلي ضربة موجعة للرجل حين استمال قائد لواء سعد -الذي عين بديلاً عن أبو تيسير في تلك الفترة- وأقنعه بحل اللواء.

كان نشاطنا السياسي في داريا مرتبطاً بالمجلس المحلي، وما بين مؤيد يشارك في إعداد الطبخات السياسية خلال اجتماعات المجلس الدورية، ومعارض يهاجم المجلس وأعماله على فيسبوك أو في الصحف المحلية؛ تشكّل عمل سياسي تميز بالبدائية والسذاجة، مع شغف كبير بمتابعة هذه اللعبة التي غدت في بعض الأوقات قذرة ولعينة.