«حَلّوا المراكب مع المغرب وفاتوني» و«يا مسافر وحدك وفايتني» أغنيتان طلبتُ من مصطفى الجرف أن يغنيهما، ليلة ودعناه وبتول، قبل سنةٍ وبضعة أشهر، قبيل سفرهما إلى فرنسا. أبدع أبو عبد العزيز في غنائهما بصوته القويّ المؤثر، فكانت السهرة لحظةً فالتةً من الزمن، لا يمكن أن تتكرر.
كان ذلك في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل. ليل غازي عنتاب المخصّص للنوم منذ ساعاته المبكرة، لا للسهر كشقيقتها الكبرى حلب. وهكذا اضطررت إلى سماع لومٍ مبطنٍ من جارتي، في اليوم التالي، حين صادفتني على الدرج. لكن الثمن بدا لي مقبولاً بالقياس إلى المشاعر الغنية التي عشتها في سهرة البارحة.
سافر آخرون، قبل مصطفى وبتول وبعدهما، نحو منافٍ بعيدةٍ لم يكن أيٌّ منهم يتخيل، قبل بضع سنوات، أنه سيقصدها هارباً مضطراً. وكثُرَ المغادرون، شهراً بعد شهر، إلى حدّ أنني بدأت أشعر بأن المدينة بدأت تخلو؛ وربما يأتي يومٌ، غير بعيد، لن نجد فيه من نتحدث إليه. يعود الأمر، في جانبٍ منه، إلى انغلاق علاقاتي الشخصية على دائرةٍ ضيقةٍ ممن أعرفهم عن قرب، غالباً، من أيام سوريا، وطبيعة عملي الذي لا يتطلب الاحتكاك بالناس. لكني أملك من الأسباب ما يجعلني أفترض أن حال كثيرين ليست بأحسن من حالي. ذلك لأن رائحة الموت التي تلاحق السوريين أينما حلوا تخلق مزاجاً عاماً لا يمكن التغلب على مفاعيله بالعلاقات الشخصية، أو بكثرة اللقاءات وتبادل الكلام.
كانت فجيعتنا بناجي الجرف، أواخر العام الماضي، ذروة هذا الإحساس بالتراجيديا السورية. لا أعرف إن كان من سوء حظي أو حسنه أنني حضرت سهرة وداع ذلك الشاب الجميل بابتسامته التي لا تفارق وجهه. كانت سهرةً صاخبةً ومزدحمةً بالحضور. لولا أن مجلسي وقع، بالصدفة، لصق مجلسه، لما تمكنا من تبادل أيّ كلام. حدثني عن التهديدات التي تلقاها، وعن محاولة اغتيالٍ تعرّض لها، قبل أيام، ونجا منها بأعجوبة. فعبّرت عن خوفي عليه بالقول: حدث كل هذا وما زلت هنا؟ ورجوته أن يقدِّم موعد سفره المقرّر بعد بضعة أيام.
بعد يومين جاء خبره. عاجله القتلة قبيل السفر بيومٍ واحد.
يغيبون، إذاً، اغتراباً أو قتلاً أو غرقاً في بحر إيجة كحال الطفل إيلان الذي استحال رمزاً للمأساة السورية. والبعض يُقتلون برصاص حرس الحدود التركيّ قبل الوصول إلى المنفى الأقرب، في طريقهم إلى ذلك الأبعد.
كثرٌ يمضون في رحلتهم خلسة، من غير أن يودعوا الأصدقاء والمعارف. ربما ينتابهم شعورٌ بالذنب أو الحرج، أو لا يريدون شهوداً على هروبهم وهزيمتهم وقهرهم. نسمع، من غير سابق إنذار، أنهم وصلوا إلى ألمانيا أو السويد أو فرنسا أو هولندا أو غيرها من بلاد الله الواسعة. قلةٌ فقط يتسنى لنا أن نودعهم. شعورٌ بالمرارة والقهر يظهر على شكل دموعٍ لا يمكن ضبطها، تسيطر دائماً على لحظات الوداع. هل يا ترى سيتاح لنا أن نلتقي مرّةً أخرى، في مكانٍ ما، أم أنه العناق الأخير؟ هل يكفي ما تبقى من العمر للقاءٍ جديدٍ مع أشخاصٍ اعتدنا وجودهم قربنا، كالماء والهواء، حتى لو لم يكن ذلك في سوريا التي تبتعد عنا كل يومٍ أكثر وأكثر؟
بمرور الأشهر والسنوات تحولت غازي عنتاب، بالنسبة لكثيرين، إلى وطن، وكأن من يغادرونه إنما يغادرون الوطن إلى الغربة. ربما هي نفسها حال أورفة أو أنطاكية أو إسطنبول أو بيروت أو القاهرة، أو أن حال عنتاب مختلفة لأنها أكبر منافي السوريين في تركيا، بما يقارب النصف مليون لاجئ. وهو ما يشكل ربع عدد سكان المدينة.
عاديٌّ في عنتاب، اليوم، أن تلتقي بسوريين لا تعرفهم، ولا تسعى إلى التعارف معهم. كأيّ سوريٍّ في دمشق أو حلب أو أيّ مدينةٍ سوريةٍ أخرى، يلتقي يومياً بكثيرٍ من الوجوه التي يراها للمرّة الأولى، في الشارع أو الباص أو المقهى أو الجامع، فلا يستثار فضوله للتعرف إلى أصحابها. هذه حال كثيرٍ من السوريين في عنتاب المزدحمة بهم. تشتري حاجياتك من محلٍّ سوريّ، ولا ينشأ تعارفٌ بينك وبين أصحابه. تلتقي بحشدٍ من السوريين أمام دائرة الهجرة، جاؤوا للحصول على إذن السفر، فلا يسعى أحدٌ إلى التعرف على أحد. كلٌّ منشغلٌ بهمومه ومأساته الوطنية الخاصة به.
«ودّعني من غير ما تسلّم.. وكفاية قلبي أنا مسلّم.. دي عينيّ دموعها.. دموعها بتتكلم».