مرابون في دمشق على هامش الحرب والعوز

John Arthur Lomax

يبدو أن مقولة «ألّا رابح في الحرب» لا تنطبق على كثير من الأعمال المشبوهة التي تزدهر تحت أزيز الرصاص. وكلما عمّ الدمار واستشرى الفساد انقلبت أحوال غربانها من كساد إلى اكتناز واقتناص فرص.

أبو سمير يُدير مكتباً لتعليم قيادة السيارات في إحدى ضواحي دمشق، لا تتجاوز مساحة المكتب بضعة أمتار مربعة، لو قصدته لتتعلم القيادة لأرسلك إلى المدرسة فعلاً، وساعدك في الحصول على الرخصة. ولكن المكتب المتواضع لا يبوح بقائمة من الخدمات التي يُقدمها أبو سمير بدون رخصة، من إقراض الأموال بالفائدة إلى تصريف العملات، وقائمة من الأعمال التي تنتمي إلى ما يُسمى السوق السوداء.

في دمشق، مثل كثير من المدن، هنالك من يستغل حاجة من يكون في أمس الحاجة، وليس بالأمر الغريب أن تجد مرابين يُقدمون الأموال بفوائد مرتفعة. فأبو سمير لم يبدأ عمله في السنوات الماضية، إلا أن حجم أعماله في سنوات الحرب فاق ما كان يطمح إليه من ممارسة هذا العمل، الذي كان يُمارسه بحيطة أكبر ومناسبات أقلّ قبل الحرب.

ويعود ازدهار أعماله حسب رأي منال، وهي موظفة بنك سابقة، إلى حاجة شريحة أكبر من الناس لتلك الأموال في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية وتوقف البنوك والجمعيات الأهلية عن العمل من جهة، وحصول المرابين على حماية تصل لحدّ الحصانة من قبل ضباط النظام ومسؤوليه الذين فتحوا باب الاستغلال والنهب على مصراعيه.

يقضي أبو سمير وقته بين سوريا ولبنان وتتعدد مجالات عمله. لم يكن الوصول إليه سهلاً، فما زال يُراعي الحذر وكأنه من متطلبات المهنة، مع أنه يتعامل بجرأة وحسن استقبال، وكأنه يُدير عملاً خيرياً.

كان اللقاء معه مُقتضباً؛ سارع فيه بالدخول في صلب الموضوع، وهو قرض بقيمة ألف دولار لمدة (6) أشهر، حيث حدد الفائدة الشهرية بمئة دولار شهرياً، مع تركِ رهنٍ بقيمة تتجاوز ألفي دولار قبل تسليم المبلغ. بدا مُمتعضاً بعض الشيء حين أخذت الأسئلة شكل الاستفسار، ولكنه سارع بالإجابة عنها بدون تردد، حيث فصّل أنه يقبل جميع أنواع الرهن من عقارات وسيارات ومُقتنيات ثمينة، كما يقبل بكفالة تجّار معروفين مع «التبصيم» على سندات أمانة. انتهى الحديث معه حين شعر بعدم جدّية الطلب: قام بإجراء اتصال وغادر المكتب كما دخله مبتسماً.

عند عجز المَدين عن الدفع يقوم المُرابي بالاستيلاء على الرهن إذا كان بحوزته، كالذهب والمجوهرات، كما يقوم بتحريك (إشارة الرهن) على العقار أو السيارة ليتمّ وضعها للبيع في مزاد علني بأسرع ما يمكن.

أما بالنسبة لسندات الأمانة فيقول محامٍ من دمشق (طلب إغفال اسمه) «إن العمل الربوي بكافة أشكاله ممنوع وفق القانون، وإن سند الأمانة يُخفي عقداً ربوياً في واقع الحال. ويمكن إثبات ربويّته بالشهادة والكتابة، إلا أنه مثل أي سند دين يمكن وضعه بالتنفيذ، وفي حال رفض المنفذ عليه لموضوع السّند، يضطر مدير التنفيذ الى إحالته للمحكمة، ويُنفّذ بعد صدور حكم قضائي مُكتسِب الدرجة القطعية». لهذا يعتمد المرابي على الرّهن بالدرجة الأولى، بينما يكون سند الأمانة ضمانة إضافية تحمل بصمات المَدين وتُعطي للدين الرّبوي مظهراً قانونياً.

في الحالات التي يضطر فيها مرضى للاستدانة بالفائدة لإجراء عملية جراحية أو لشراء دواء باهظ التكلفة، لا يُبدي المرابون أي تعاطف، بل يتشددون بشروطهم، فيرفضون تبصيم المريض على سند الأمانة خشية وفاته، ويستعيضون عنه بتبصيم أحد أبنائه على السند، فضلاً عن رفع قيمة الرهن وطلب كفيل إضافي.

يعمل وليد حداداً بالمياومة في ورشة، احتاجت والدته المريضة لعملية زرع شبكات في القلب، يصل سعر الشبكة الواحدة إلى ما يزيد عن (300) دولار، في المشافي العامة والخاصة على حدّ سواء. مُتوسط الدخل الشهري لوليد لا يتجاوز (50) دولاراً، ما اضطره لرهن منزله الذي بِيع فيما بعد بثمن بخس، بعد فشله بالحصول على المساعدة من الجمعيات الخيرية لوجود حالات أشد حرجاً من حالة والدته.

هناك حالات أخرى يلجأ فيها المضطرون للاستدانة دون تحديد تاريخ لتسديد المبلغ، حيث يستمرون بدفع فائدة شهرية حتى سداد المبلغ بالكامل مع وضع رهن طول مدّة الدين. قصي سائق سيارة أجرة، لم يجد طريقة لتأمين مبلغ (150) ألف ليرة كتأمينٍ لمالك السيارة إلا بالاقتراض من أحد المرابين، فرهن جهاز موبايل وبصم على سند أمانة مع كفالة من أحد معارفه. نهاية كل شهر يقع على عاتقه دفع (15) ألف ليرة للمرابي، وفي أشهر كثيرة، عندما يفشل بادّخار المبلغ المطلوب، يضطر للاستدانة مجدداً، وعلى هذه الحال يبقى السائق الشاب غارقاً في ديونه، رغم عمله ولساعات طويلة على سيارة الأجرة كل يوم.