مدينة دير الزور في أيامها الأخيرة
حين كانت الطائرات تلقي العنقودي كأنه «كرميلا»

متداولة على الفيسبوك

شهادة لمتقاعد من حي العمال كان من آخر المغادرين لمدينة دير الزور، منذ منتصف تشرين الأول وما بعده. ننشرها بقليل من التصرف كما وردت.

أصبح الوقت مغربا، نزل أول صاروخ، ونزل ثاني صاروخ، وبدأت المدفعية بالضرب. سمعنا صياح. أنا وبناتي فقط. أولادي اثنان بالجيش الحر، وثلاثة بتركيا مع أمهم، أحدهم إصبعه مقطوعة، وحنكه وصدره مصاب في اقتحام مدرسة الصناعة، أجريت له عملية في تركيا. أرسلتهم إلى هناك. فالأم صار على عيونها غشاوة من البكاء على أولادها. اثنان منهم شهداء. 

أنا لدي خبرة وخدمة بالجيش ثمان وعشرين سنة مساعد أول، تسرحت في السبعة وتسعين، أعرف معنى التمشيط ومعنى الرمي. لدي بنات ولست خائفا، والسلاح مؤمن من أصدقائنا. قلت لهن من الممكن أن أصعد الجبل مع الأولاد، أو أتقدم إلى الأمام. هاتان بارودتان تعرفن ماذا تفعلن. منذ وقت طويل علمتهن كيف يستعملنها. بناتي مثقفات، كان من المفروض أنهن أنهوا الجامعة. أول صاروخ، ثاني صاروخ، قلت لهن هناك هجوم، نظراََ لرمي المدفعية والهاون، هناك هجوم على ماأعتقد. الخطة العسكرية تقول هكذا، لأنه بدأ بقوة وعنف، كذلك حلق الطيران، قلت لهن الهجوم تأكد، ما من شك في ذلك. 

نزلت داعش من فوق، داعش على الجبل، أما جماعتنا -مثلوا أنهم داعش من أجل السلاح- مرابطون في الموظفين. الديرية يقولون لا يدخل الجيش من هنا، يقولون يدوس علينا ويدخل. المهم نزلوا من الجبل، يقولون أخلوا. ياأمير الهاون -يسمون أنفسهم أمير الهاون وأمير المدفعية- لماذا تخلون؟ يقول هاهم على الجبل. قلت له منذ زمن صعدوا الجبل ونزلوا، وصعدوا ونزلوا، ولم يستطيعوا التقدم. حملوا أنفسهم وتابعوا المشي. سمعنا صياحا فخرجت أركض، المصابون أسعفناهم على الدراجات. وقفت أريد الدخول إلى بيت سمعت منه صوت أنين، أريد الدخول إلى بيت، كنت أذكر أن هناك أنين بالبيت، وأنا واقف. بعدها أين أصبحت لا أعرف، شاهدت الومضة وأنا أدق الباب. ومضة تبعد عني تقريبا خمسة وسبعين مترا.

لا أعرف أين صرت. تقريبا ربع ساعة، نصف ساعة.. أسمع امرأة تصيح (وين أهل المروة). هناك قدام بيتنا شاب مصاب، أسمع لكن لست واعيا. بقيت مرميا على الأرض. جاء شاب على دراجة قال لها أين؟ قالت له أمام البيت، هناك شاب أمام بيتي اسمه أبو خالد من الجبيلة، جاء ليعطيني مفتاح بيت صاحبه بالبوكمال، ثلاثة طوابق، كي أسكن في الطابق الأرضي، لأنهم شاهدوا القصف، كانوا يرون من الحميدية والجبيلة القصف على العمال، صار مثل المطر. جاء الشاب وأصيب، أسعفه الأولاد وانصرفوا، وأنا على الأرض لم يروني من كثافة القصف. بعد أن تلاشت الغبرة سمعت أحدهم يقول أين الحجي، لماذا هو ليس بالمعمعة؟ قالوا لا نعرف. تراكضوا إلى البيت، أين أبوكن؟ أبي معكم بالإسعافات. صارت الناس تبحث، وجدوني. أنا واعٍ أسمع حكيهم، لكن لست بكامل وعيي، أصابتني شظية مازالت بفخذي، وشظية بقدمي وأخرى برأسي. الإسعاف بفارمكس. 

تقريبا في الساعة الحادية عشرة ليلا ذهبت لبناتي، وجدتهن واقفات أمام الباب، قلت لهن بسيطة، ادخلن. ليتني لم أقل ادخلن. عندها جاءت الطائرات، والله العنقودي تلقيه كأنه كرميلا. قلت لهن كلكن بزاوية في السرداب، ووضعت الفرش قدامهن مثل المصد، قلت اقعدن هنا والباقي على الله. بعد قليل صار القصف في الحارة الثانية، الثالثة.. قلت لهن قمن معي، وخرجنا من جانب الكراج، وقلنا يالله إلى المعبار. استقبلنا الأولاد هناك: الحمد لله على السلامة، من بقي وراءك، قلت لهم فلان سمعته يصيح على أولاده يقول لهم اطلعوا بسيارة سوزوكي، معه أطفاله الأربع، وزوجته ولدت من فترة قريبة. تذهبون وتأتون به. وفعلا. 

في اليوم الثاني ذهب فلان وفلان وفلان عن طريق الجسر المعلق، تمسكوا ببقاياه وطمسوا بالنهر وعبروا، ليأتوا بالأخبار، الحمد لله، مصابان أسعفوهما إلى مشفى فارمكس، لكنها في اليوم الثالث انتهت، كانت مدمرة بشكل نهائي، وقتل فيها ممرضان أو ثلاثة. أبو داود صاحب سيارة الفان تركته في الداخل.

يقول أبو داود لما هجم النظام من العمال هربنا إلى الجبيلة، ومنها إلى شارع حسن طه وستة إلا ربع، وهناك نمنا في العبارات. كانت الناس تسمع أن داعش تقتل كل من يخرج من بيته، أو تجنده. كانت الناس تأخذ أخبارها من الراديو، ومن أولاد البلد المبايعين، قالوا لهم هزمنا. بعدها عبروا إلى الحويقة ثم حويجة كاطع، ومنها إلى قرية الجنينة في الليل، لأن قناص مشفى القلب يرصد المنطقة. في الجنينة أمسكت بهم داعش، قالت لهم من يريد الذهاب فليذهب. الأكراد في قرية الحصان، نقطة الاشتباك، لوح لهم أبو داود أنهم مستسلمون، وأعطى ذهب زوجته للحاجز كي لا يأخذوه إلى المخيم.