محمد ناصيف خير بك... آخر معالم دولة الأسد الأب

عمر الباشا

دقائق قليلةٌ تفصل بين مدرسة الحرية (اللاييك سابقاً، والشهيد باسل الأسد لاحقاً) في أول شارع بغداد الدمشقيّ وبين "فرع الخطيب" في آخره. ألِفَ أبناء حافظ الأسد هذه المسافة جيداً، فهي طريقهم المتكرّر من مدرستهم الرسمية إلى معهدهم الخاصّ في مكتب العم أبو وائل، كأبناء رئيسٍ لا يجد الوقت الكافي لرعاية شؤونهم الشخصية ولا لتدريبهم على الحكم.

لم يكن محمد ناصيف موضع ثقة الأسد في أمن عاصمته وعموم البلاد فحسب، بل أيضاً في إعداد أبنائه الذكور، ولا سيما باسل وبشار وماهر، ولاحقاً ابنته بشرى بعد أن عشقت آصف شوكت، الضابط المتزوّج الذي يكبرها بسنواتٍ، والمشكوك في علويته. فكانت على ناصيف مهمة مراقبة الابنة الشكسة والاطمئنان إلى انتهاء علاقتها تلك، التي أزعجت الأب وأغضبت ابنه البكر، قبل أن يقضي الأخير في حادث السيارة الشهير، ويستسلم الأوّل لقضاء الله ولاختيار ابنته.

والحقّ أن مصرع باسل لم يُصِب والده البيولوجيّ فحسب، بل عرّابه كذلك، الذي وجد نفسه مضطرّاً إلى إعادة دروس التوريث ذاتها لبشار، بعد أن كان قد تلقى ما يلزمه فقط كأحد أفراد الأسرة الحاكمة. ولكن المعلّم، الذي لا يملك الكثير من الصبر في العادة، لم يكن ليتلكأ إطلاقاً عن أيّ شيءٍ يصبّ في مصلحة حافظ الأسد. فقد كان ينظر إليه كربٍّ فعليٍّ، وهو الأمر الذي طالما أجبر الموقوفين لديه على تكراره. فمن فرعه انطلقت سلوكات إجبار المعتقلين على السجود لصورة الأسد، قبل أن تجد طريقها إلى وسائل الإعلام، إبان الثورة، بعقود.

ولد محمد ناصيف في قرية اللقبة التابعة لمدينة مصياف. دخل دار المعلمين بعد حصوله على الشهادة الإعدادية (البروفيه). قضى خدمته العسكرية في كلية ضباط الاحتياط أصولاً. وحالما أنهاها وسافر إلى القامشلي ليصبح معلماً انقلب رفاقه البعثيون على الحكم في دمشق، واستدعي، مثل مئاتٍ آخرين من الحزبيين أو الأقرباء أو الموالين، إلى العاصمة ليسدّ إحدى الثغرات التي نشأت عقب تسريح مئات الضباط الانفصاليين أو الشوام، ثم الناصريين. حاز ناصيف على رتبة ملازم فور التحاقه الثاني بالجيش كضابط احتياط، وهو التصنيف الرسميّ الذي ظلّ يشمله طوال حياته، رغم ترقيه في السلك العسكريّ إلى رتبة لواء.

ولكن ما أهمية ذلك لرجلٍ لم يأبه يوماً للتراتبية الشكلية، وخاصّةً بعد أن تولى رئاسة فرع الأمن الداخليّ (الفرع 251) بإدارة المخابرات العامة (أمن الدولة)؟ وهو الفرع الأكثر أهميةً في هذا الجهاز على الإطلاق، إذ إن مسؤوليته المباشرة هي أمن النظام وأمن العاصمة، ولرئيسه اتصالٌ هاتفيٌّ مباشرٌ ومفتوحٌ برئيس الجمهورية. وعبر السنوات، والمكالمات التي أصبحت يوميةً مع الأسد، احتلّ ناصيف موقع الشريك الفعليّ، ولم يعد يعلوه في سورية فعلياً سوى الأسد نفسه. خدم ناصيف في عهود ستة مدراء لإدارة المخابرات كان أقوى منهم جميعاً، وبالتدريج. من فرعه الذي تعامل معه كإقطاعٍ خاصٍّ مطلق الصلاحيات، وأقام فيه لأكثر من عشرين عاماً في غرفةٍ بجوار المكتب، كان يدير أكثر الملفات حساسيةً، بوحشيةٍ لا حدود لها في كثيرٍ من الأحيان، وبتوسّعٍ غير مسبوقٍ في تجنيد "المندوبين" (المخبرين) في كلّ مكان.

ينسب العارفون بتاريخ هذه الإدارة إلى محمد ناصيف (ورفعت الأسد، من جهةٍ أخرى) تحويلها من جهازٍ أمنٍ يغلب عليه الموظفون المدنيون المنكبّون على الأعمال المكتبية إلى جهازٍ قمعيٍّ طائفيٍّ يمسك به عسكريون. والحقّ أن ناصيف لم يخفِ شيئاً من إيمانه الصوفيّ بالمذهب العلويّ، واعتقاده بولاية أجداده من شيوخ المذهب، وتبرّكه بزيارة المراقد والمزارات. كما لم يخفِ ميله إلى خشونة العسكر واستعراض السلاح في الشوارع مقابل رهافة المدنيين. ولا عداءه المطلق للإخوان المسلمين، الذي تأسّس على ذاكرة دراسته الحموية، ولبعثيي العراق، الذين انتمى بالأصل إلى خصومهم من أتباع أكرم الحوراني في الحزب، ولا حتى لبعثيي 23 شباط، الذين وقف ضدّهم منذ 1970، ولا للشيوعيين الذين كانت تستفزّه رطانتهم الثقافية، وهو القارئ فقط للتاريخ وللسير الذاتية للسياسيين، والذي يعدّ "كفاحي" لأدولف هتلر كتابه المفضّل. لم يخفِ عداءه لكلّ هؤلاء، بذاءةً لفظيةً شرسةً وتنكيلاً إجرامياً كلما تطلّب أمر الحفاظ على حكم الأسد ذلك.

تعزّزت ثقة الأسد بناصيف مع تراكم التجارب الحاسمة والمفصلية. ولكنه ظلّ غير مرتاحٍ تماماً إلى الوجود الضروريّ لهذا الرجل الذي يعرف الكثير. وبالمقابل، كانت إحدى متع ناصيف، فضلاً عن التدخين الشره والكحول ومعاشرة النساء، هي أن يترك للأسد، بين الفينة والأخرى، ثغرةً في المعلومات ليستكملها من مصادر أخرى، لأنه يعرف تماماً أن الأسد يحبّ أن يؤكّد أنه هو الرئيس بالفعل!