ماهر هددنا بالبدلة.. عن جيل جديد من السوريين لا يعرف القاشوش

إبراهيم القاشوش يصدح خلال التظاهرات المليونية في حماة

ظهور ماهر الأسد مؤخراً بالبدلة العسكرية خلال استعراض عسكري حفّز نوعاً من النوستالجيا لأيام الثورة الأولى، وبات جيل كامل من السوريين المعارضين ممن شهدوا أكبر هزة في تاريخ سوريا المعاصر يعيش لحظات من الرومانسية الثورية، معاوداً تذكر صوت إبراهيم القاشوش يصدح خلال التظاهرات المليونية بالقرب من نهر العاصي: "ماهر هددنا بالبدلة. بحماة اعملك فتلة. والله لتاكل قتلة. ونربي جيل بحالو". الجيل المقصود كان الجيل الموالي والمناصر لآلة القتل، وهو جيل نال أيضاً نصيبه المأساوي من الصراع الذي تحولت إليه الثورة فيما بعد.

لكن الانقسام المانوي للجيل السابق الذي كان يشكل العنصر الفتي من سوريا القديمة، ربما بات نوعاً من الماضي مع نشوء جيل جديد لم يشهد الانفجار الكبير في العام 2011 بشكل واعٍ، ولا يدرك التراتبية السابقة التي تبدأ من الهتافات الإصلاحية الأولى، مروراً بالمطالبة بإسقاط النظام، ثم ظهور الأيقونات السورية مثل القاشوش والهرموش والساروت، وانتهاء بتسليح الثورة وبداية حالة الانقطاع شبه التام بين منطقتي المعارضة والموالاة. جيل لم يفهم القصة المثيرة حول ارتداء ماهر الأسد البدلة العسكرية، التي يعرفها جيل الثورة.

لا يمكن الحديث -في سياق محاولة فهم عقلية الجيل السوري الجديد- عن تصنيف ثنائية موالاة/معارضة، نظراً لبعد هؤلاء الفتيان عن "العصبية السياسية" التي كانت سائدة سابقاً؛ لم يعايشوا مراحل تطور وازدهار الصراع، بل وجدوا أنفسهم فجأة وقد ترعرعوا في مناطق منفصلة مكانياً، مع تاريخ غير مفهوم يتعلق بالكم الهائل من الأفكار والأحداث وتبدلات الخرائط. فتيان مناطق النظام ليسوا جميعاً موالين، تؤكد هذه الفرضية كثافة حجم المتوارين منهم الهاربين من الخدمة العسكرية، وهي ظاهرة في تزايد مستمر. كما أن فتيان مناطق المعارضة ليسوا ثواراً، ولم يعاينوا الحركية الثورية بشتى أنواعها، والتي كانت تحفزها حالة الاندماج الكامل مكانياً بين النظام والثوار الأوائل.

هم إذن شبان لم يعيشوا في سوريا واحدة ولا يتواصلون مكانياً، لكنهم يعيشون نوعا من التواصل الافتراضي على فيسبوك وتيكتوك بغض النظر عن التصنيف السياسي الذي لم يعاينوه بسبب صغر أعمارهم أو لأن قسماً كبيراً منهم ولد بعد مرحلة فورة الأفكار الثورية. كما أن خضوع هذا الجيل الجديد  لتأثيرات التواصل الافتراضي التي ترعرعوا على وجوده -بالضبط كما شب الجيل السابق على بديهية وجود التلفزيون-  جعله جيلاً مختلفاً تماماً عن الجيل السابق المتسم حتى اليوم بالعصبية السياسية، بحيث لا يزال يحكم على الأشياء والأشخاص والأفكار والقضايا من منظور ثنائية الخير/الشر، المعارضة/الموالاة.

وبالرغم من الانقسام المكاني الذي يعيشه الجيل الجديد، إلا أن قواسم مشتركة كبرى لليافعين والشبان في كلا منطقتي النظام والمعارضة، وتتمثل إضافة إلى الرغبة في الابتعاد عن التصنيف السياسي، الفقر والبطالة، الرغبة في الهجرة، الابتعاد عن الانخراط في القتال والمؤسسات العسكرية. كما يعاني كلا الطرفين من مصير مجهول تتسبب به الأوضاع الكارثية للجامعات السورية بشقيها الموالي والمعارض.

وبما أن الهدف الأول من التعليم الجامعي السوري -منذ فترة الانتداب الفرنسي- هو تخريج موظفي الحكومة، فإن خريحي مناطق النظام لن يحصلوا على معيشة مقبولة من إشغالهم الوظائف الحكومية نظراً لتواضع الراتب الوظيفي. كما أن خريجي جامعات المعارضة يواجهون مصاعب أكبر ناجمة عن عدم الاعتراف بالأوراق الثبوتية لجامعاتهم، إضافة إلى عوائق أخرى مثيرة للتشاؤم وتتعلق بارتفاع مستوى البطالة إلى أرقام غير مسبوقة مع اقتصار فرص التوظيف على حفنة من المنظمات الإنسانية، يضاف إليها سلة أخرى أصغر حجماً من الوظائف التي تؤمنها المجالس المحلية وحكومتا "الإنقاذ" و"المؤقتة".

لكن يبقى هناك حالة من الافتراق تصب في صالح الشق الفتي الذي يعيش في مناطق المعارضة، ويتمثل بتذوق هذا الطرف طعم الحرية بعيداً عن "المملكة الأسدية". فهؤلاء الفتيان لم يجربوا العيش في ظل القبضة الأمنية للمخابرات الجوية والأمن العسكري والسياسية. ولم يعاينوا بيروقراطية كاملة من الفساد يقوم عليها النظام السوري منذ تربعه على عرش السلطة. وهم أيضاً يتأثرون بكميات تقل أو تكثر بجيل الثورة وروادها الأوائل الذين لا يزالون شديدي التعصب والإيمان بالثورة، على الرغم من مرور أكثر من عقد على اندلاع شرارتها الأولى، مع ملاحظة أن حالة الحريات هنا نسبية ولا تراعي كثيراً الفردية منها، وتقاس إلى الوضع الأسدي العقيم سياسياً واجتماعياً وثقافياً، وتتأثر بالمكان والزمان ونوعية سلطات الأمر الواقع الحاكمة، لكنها موجودة على أي حال.