- Home
- مقالات
- ترجمة
ما فعلته الـ CIA في أفغانستان المُحتلة من قِبل السوفييت وما (لم تفعله) (١ من ٢)
عمران فيروز*
26 نيسان 2021 عن موقع NEWLINES
ترجمة مأمون حلبي
اليساريون الغربيون يعتقدون أنّ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) خلقت تنظيم القاعدة بمساعدتها للمجاهدين على إسقاط الحوامات الروسية. إنهم مخطئون
منذ بضعة أسابيع، شرعتُ بقراءة كتاب جديد (أسلوب جاكرتا: حرب واشنطن الصليبية ضد الشيوعية وبرنامج القتل الجماعي الذي شكّل عالمنا). هذا الكتاب من تأليف الصحفي الأمريكي فينسنت بيفينس، وتم نشره العام الماضي وأصبح واسع الانتشار في غضون وقت قصير. يُركّز الكتاب على عمليات القتل الجماعية التي حدثت في أندونيسيا في السنوات 1965-1966، وهو يصف بطريقة صادمة كيف تم مقتل قرابة مليون شخص في مسعى يهدف إلى تدمير اليسار السياسي في ظل الحرب الباردة. وفقاً للمؤلف ولآخرين كثيرين، أُقِّرَ هذا الأسلوب وتم تكييفه من قِبل الولايات المتحدة التي استخدمته في أجزاء واسعة من العالم بهدف سحق مقاومة الجناح اليساري لصالح المنظمات اليمينية المضادة والديكتاتوريات الفاشية، خصوصاً في أمريكا اللاتينية.
قرأت الكتاب دون قصد محدد، مع ذلك في ثنايا ذهني كان ثمة وجود لتوقعات مبهمة كنت قد حصّلتها من خلال تفاعلات كثيرة مع جمهور محدد من اليساريين الغربيين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم –دون خجل– تقدميين، وقبل كل شيء، معادون للإمبريالية. هذه المعاداة للإمبريالية من الصنف الذي يُركّز فقط وبشكل راسخ على الشرور الجليّة الناجمة عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وهي تحلل كل التطورات الحاصلة بعد الحرب العالمية الثانية من خلال منظور أيديولوجي يُشبه نفس خطاب الحرب الباردة الذي يتبناه الطرف الآخر الذي يتعرض للنقد. دعوني أكون واضحاً: مع أنّ بيفينس واجه بعض النقد قبل النشر، إلا أنّ عمله كان غير عادي، وبحثه المتعلق بأندونيسيا استثنائي. لا شك أنّ عمليات القتل التي حدثت في أندونيسيا كانت ليس فقط مرعبة ووحشية، بل وأيضاً تم غض النظر عنها من قِبل كثير من المراقبين الغربيين.
مع ذلك، يصبح الأمر إشكالياً، وحتى أحياناً ينطوي على نفاق عميق عندما -مثل آخرين كُثر- يستنسخ بيفينس هذه الأحداث بطريقة معينة، مع أخذ تناظرات معينة وتكييفها لتلائم مجموعة من البلدان واقعة بشكل أو بآخر في أتون الحرب الباردة. ما ينبثق أمامنا نتيجة لهذا التحليل هو صورة تتضمن رجلاً "شريراً" محدداً –الولايات المتحدة– ورجلاً "طيباً" –الاتحاد السوفيتي. هذه الصورة تتجاهل أنّ الاتحاد السوفيتي، عوضاً عن كونه يوتوبيا تقدميّة واشتراكية، كان هو نفسه إمبراطورية اضطهدت ملايين الناس داخل البلد وأيضاً خارج حدوده.
عندما يتعلق الأمر بالحرب الباردة، من المستحيل تقريباً عدم التحدّث عن أفغانستان. يذكر بيفينس أفغانستان مرتين فقط، بالرغم من أنه يصف نفسه كخبير في كل المسائل المتعلقة بالحرب الباردة. في أحد الأسطر يكتب بيفينس "كان الجنود السوفييت في أفغانستان يحاولون مساندة حليف شيوعي لمدة تسع سنوات. تراجعت قوات موسكو. دعمت الـ CIA الأصوليين الإسلاميين في تأسيس حكم ديني متعصب، وكف الغرب عن إيلاء هذا الأمر اهتمامه".
بيفينس ليس وحيداً في هذا التحليل المضجر والمُضلل لاحتلال عانت منه أفغانستان تحت وطأة القوات السوفيتيية طيلة عقد من الزمن، أقوال من هذا النوع واسعة الانتشار بين أقسام واسعة من اليسار السياسي الغربي، خصوصاً في الولايات المتحدة، لكن أيضاً ضمن التيارات السائدة واليمين المتطرف. مؤخراً تشاركت الـ CIA تغريدة حول استخدام صواريخ ستينغر الشهيرة تقول: "صواريخ ستينغر التي قدمتها الولايات المتحدة منحت مقاتلي حرب العصابات الأفغان القدرة على تدمير الحوامات القتالية التي نشرها السوفييت لتعزيز سيطرتهم على أفغانستان". تسببت هذه التغريدة برد فعل عنيف في صفوف المؤدلجين اليساريين، الذين ردوا بالتشبيهات القاصرة المعتادة.
في كثير من الأحيان، يصبح واضحاً أنّ كثيراً من أولئك المعلقين يفتقرون حتى للمعرفة الأساسية بالأحداث التي ابتُليت بها أفغانستان على مدار العقود الأربعة الماضية. والأدهى من ذلك، المهابة الزائفة التي يتمظهرون بها بتحليلٍ لأحداث معينة من خلال منظور أيديولوجي غالباً ما تكون من أجل إخفاء عدم اطلاعهم على تعقيد المواضيع التي يعالجونها، وعادة ما تكون الحصيلة النهائية حكاية مبهرة تعبق برائحة المركزية الغربية، ومن جديد بخيوط محددة بين الخير والشر. لنقل بكل بساطة، هذا ليس تحليلاً حقيقياً.
من هنا، يرى التحليل القائم على أسس أيديولوجية أنّ الـ CIA موّلت المجاهدين، الذين هم على صلة وثيقة بالقاعدة، وبالتالي جعلت هجمات الحادي عشر من أيلول ممكنة. المقاتلون من أجل الحرية الأفغان الذين قاوموا السوفييت هم بكل أطيافهم إما طالبان أو القاعدة، هذا التحليل يتجاهل ليس فقط التمييز بين الجماعتين، بل أيضاً حقيقة أن حركة طالبان تأسست في منتصف تسعينيات القرن الماضي، بعد نصف عقد من انسحاب السوفييت.
كان مقاتلو الحرية أولئك يُصوّرون عادة على أنهم شرقيون مرعبون بلحىً كثّة، لا يختلفون بشيء عن المتمردين النيكاراغويين ضد حكم أورتيغا، أما الديكتاتورية الشيوعية التي نصّبها السوفييت في كابول فقد صوِّرت على أنها فعلياً ليست سوى حكومة شرعية تقدّمية أطاح بها الإمبرياليون الأشرار. في الحقيقية، كانت الأمور أكثر تعقيداً.
في نيسان 1978 نظّم الحزب الشيوعي الأفغاني، المعروف رسمياً باسم حزب الشعب الديمقراطي، انقلاباً دموياً احتُفِل به باسم "ثورة نيسان"؛ قتل الانقلابيون الرئيس الأفغاني المستبد ومؤسس الجمهورية محمد داوود خان مع 18 فرداً من عائلته، بعد ذلك بوقت قصير أطلق كل من نور محمد طرقي الصحفي الذي أصبح ديكتاتوراً، وتلميذه صاحب الكاريزما حفيظ الله أمين المحاضر الذي درس في جامعة كولومبيا، حكمهم الطغياني.
في غضون وقت قصير، تعرّض آلاف الأفغان الأبرياء للسجن والتعذيب والإعدام من قِبل نظام نور طرقي. كان سجن جارخي في كابول، الذي سيتحول فيما بعد إلى بؤرة تعذيب شيوعية سيئة الصيت، مكتظاً بالسجناء بشكل يفوق الوصف. قام النظام –بفضل الدعم السوفيتي الهائل– بتوسعة السجن، محولاً إياه إلى مقبرة لكثير من المثقفين والناشطين السياسيين الأفغان، في حين تم استهداف القادة الدينيين والقبليين بعزم لا يعرف الرأفة؛ حتى الطلاب والفلاحون والعمال لم يكونوا بمأمن، وكثير من أولئك الذين استسلموا لمصائرهم الفظيعة على يد الشيوعيين استُهدِفوا فقط لأنهم كانوا يصلّون خمس مرات في اليوم، أو كانوا يُظهِرون أي علامة من علامات التديّن، أو كانوا أشخاصاً لهم شيء من المكانة والنفوذ، أو انتقدوا عمليات القتل الجماعية التي كان النظام الحاكم يرتكبها.
في وقت لاحق ارتكبت قوات طرقي مجزرة "هيرات" في الجزء الغربي من البلاد، حيث قُتِل بحدود 25 ألف مدني أفغاني بعد أن أخافت الانتفاضة المعادية للشيوعيين التي عمّت المدينة السلطات في كابول. بعض من مرتكبي المجزرة، مثل المدعو شهنواز تاناي، ما يزالون أحياءً، ولم تتم إدانتهم أو تجريمهم، ويسرحون ويمرحون بحرية في كابول في الوقت الحالي. ما تزال كثير من القبور الجماعية التي تعود لتلك الحقبة مفقودة، ويواصل أفراد من عائلات المفقودين البحث عن جثامين الضحايا.
قسم كبير من هذا الفصل الكالح من التاريخ الأفغاني، الذي أثّر تقريباً على كل أفغاني على امتداد البلاد، يُساء فهمه، فهو لا يتطابق مع السرديات السائدة، وكُثر هم أولئك الذين ما زالوا يعتقدون أنّ أفغانستان في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي كانت "ليبرالية" و"تقدمية" و"حديثة" لأنّ استهلاك الكحول كان منتشراً في صفوف النخب المدينية، وكان للنساء حرية ارتداء ما شئنَ من الملابس؛ هكذا كان تصوير كابول على أنها محمية ليبرالية جزءاً من حملة دعائية يقودها النظام الشيوعي في كابول وداعموه في موسكو. كان حزب الشعب وداعموه السوفييت يزعمون أنهم كانوا يساندون حقوق النساء والعلمانية، حتى عندما كانوا يستخدمون الاغتصاب كسلاح حرب في القرى الأفغانية وفي زنازين التعذيب التي تخص النظام – تماماً نفس الأسلوب الذي يمارسه نظام الأسد في سوريا حالياً.
مع أنّ نظام طرقي كان حليفاً أيديولوجياً لموسكو وكان يتلقى منها دعماً مالياً هائلاً، إلا أنّ المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي أصبح قلقاً بخصوص الوضع في أفغانستان. كان طرقي متحمساً حد التعصب، وأعتقد بأنه كان مبشراً بـ لينين، وقد أكّد لداعميه وحماته السوفييت أنّ الإرهاب الأحمر ضد "أعداء الثورة" كان ضرورياً، إضافة إلى ذلك ازدادت الخلافات ضمن الحزب بين جناح "خلق" الذي ينتمي إليه كل من طرقي وحفيظ الله أمين وجناح "بارشام"؛ كان يهيمن على الجناح الأول الباشتون الذين يعودون إلى منبت ريفي، كحال طرقي وحفيظ الله أمين اللذين مزجا اشتراكيتهم المزعومة بأفكار قومية متطرفة، في حين كان يُهيمن على الجناح الآخر رجال ونساء من المدن من الباشتون وغير الباشتون.
نتيجة لهذه الانقسامات، سُجِن عدد كبير من أفراد جناح بارشام أو أُجبِروا على مغادرة البلاد. في فترة مبكرة من عام 1979، قُتِل طرقي من قِبل حفيظ الله أمين، تلميذه السابق. غير أنّ عمليات السجن والقتل الجماعية ازدادت. ومع اشتداد المقاومة ضد النظام، أصبح مئات الآلاف من الأفغان لاجئين، وانضمّ عدد كبير من الناس إلى جماعات المقاومة ضد النظام وأصبحوا مقاتلين مجاهدين ضمن أحزاب وحركات متنوعة يقودهم في كثير من الأحيان رجال دين بارزين أو شخصيات إسلامية. كثير من أولئك القادة كانوا يتبعون أيديولوجياً الإخوان المسلمين، ومواقفهم المعادية للحكومة تعود إلى حقبة حكم داود خان. وحتى أنهم كانوا قد تلقوا بعض التدريبات على يد المخابرات الباكستانية ليقوموا بانقلاب قبل انقلاب طرقي. غير أنهم لم ينجحوا في هذا المسعى. افتقارهم للوحدة فاقمته حقيقة أنّ مكانتهم وأيديولوجيتهم كانتا على العموم ضعيفتان في المجتمع الأفغاني الذي كان يرى نفسه حينها إسلامياً بما يكفي. وبعكس الإسلاميين، كان لدى حزب الشعب الديمقراطي استراتيجية أعطت ثمارها. فأقسام كبيرة من الجيش الأفغاني كان يهيمن عليها أفراد تلقوا تدريبهم العسكري وتعليمهم في موسكو وانضموا للحزب بعد عودتهم إلى أفغانستان.
أخيراً وليس آخراً، حفيظ الله أمين، الذي من سخرية الأقدار أصبح ماركسياً جذرياً أثناء دراسته في الولايات المتحدة، بدء بغسل دماغ الأفغان الشباب باستخدامه منصبه كمحاضر في دار المعلمين في كابول، حيث كان يعلّم الأساتذة الشباب هناك قبل إعادتهم إلى قراهم وقد لُقِّنوا الأيديولوجيا الاشتراكية. في عام 1955 أصبح مدير مؤسسة أخرى لتدريب المعلمين (ثانوية ابن سينا في كابول)، وكثير من طلابه سيصبحون فيما بعد جزءً حاسماً من النظام الشيوعي الأفغاني.
*وُلِد وترعرع في النمسا لأبوين أفغانيين