- Home
- Articles
- 1
لماذا يفرُّ الكرد العراقيون إلى أوربا؟
كمال تشوماني (صحفي ومحلل من إقليم كردستان العراق)
22 تشرين الثاني موقع مجلة NEW LINES
ترجمة مأمون حلبي
بغض النظر عن استخدام بيلاروسيا لورقة المهاجرين كسلاح، يشعر عدد كبير من الكرد أن الوعد الذي كانوا ينتظرونه في وطنهم لم يتحقق.
"كان ثمة تهديدات وجودية تطال حياتي في كردستان العراق. طيلة ال30 عاماً المنصرمة والحكم العائلي المافيوي يُجَوّع أمتنا، وفي كل مرة كنا ننزل فيها إلى الشوارع للمطالبة بحقوقنا كنا نتعرض للاعتقال، ويتم ترهيبنا وضربنا"، هذا ما قاله شارحاً أوميد أحمد، وهو شاعر وناشط كردي عالق على الحدود البولندية البيلاروسية، عندما سألته لماذا غادر أربيل.
منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية والكرد مبعثرون في أربعة بلدان شرق أوسطية (سوريا، إيران، العراق، تركيا)، ومحرومون من إقامة دولتهم (الدولة-الأمة)، وهناك وفرةٌ في التقارير التي تتحدث عن كرد يفرون من الاضطهاد والترهيب من سلطات تلك البلدان. غير أن الكرد، ومنذ إنشاء إقليم كردستان العراق عام 1991، يواجهون أيضاً القمع والفساد في الداخل الكردي بمعية السلطات الكردية في أربيل.
إن الرحيل الجماعي عن الوطن لكردٍ مثل أوميد أحمد ليس مجرد قصة بسيطة عن الهجرة أو حتى قصة عن الفرار من الظلم والفساد والترهيب والحكم الاستبدادي في الإقليم الكردي، إنها قصة إخفاق أوسع. فإخفاق ما كان يُكال له المديح فيما مضى بوصفه قصة نجاحٍ إقليمية يُشكل خسارة للشرق الأوسط ككل، وكما في باقي أنحاء العراق والإقليم الأوسع فَشِل النموذج الكردي في حل المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العميقة بواسطة التفكير القومي والشعارات القومية فقط.
بعد غزو العراق عام 2003 كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها بحاجة ألى سردية يسوغون بها وجودهم المتواصل هناك، فأتوا بفكرة" العراق الآخر"، كون الجزء الكردي من العراق هو الأكثر استقراراً والأقل طائفية، والذي سيصبح نموذجاً يحتذى بالنسبة إلى الشرق الأوسط. راقت الفكرة للقيادة الكردية التي استخدمت الدعم الدولي لتوطيد سلطتها وبناء إمبراطوريات اقتصادية من عائدات النفط، وهذا ما حقق نوعاً من الاستقرار والانتعاش الاقتصادي بفضل أسعار النفط المرتفعة في حينها، لكن المنظومة اللصوصية والاستبدادية البطريركية كان لها اليد الطولى، وهذا ما تجاهله الغرب وعجز الناس عن مجابهته.
أصبحت حكومة إقليم كردستان نموذجاً اقتصادياً يجري قياس بقية العراق على أساسه. أطلقت القيادة الكردية، بالأخص الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، فكرة جعل أربيل "دُبي" أخرى. لكن خلف هذه البروباغندا كان المجتمع الكردي يتهاوى، كان المجتمع الكردي منقسماً إلى طبقتين اقتصاديتين اجتماعيتين: طبقة النخبة السياسية وداعموها وأزلامهم النافذون، والطبقة الأخرى المكونة من الجماهير.
بَنَتْ الأقلية التي بيدها السلطة قرىٌ قرب المدن، مستغلة البضائع العامة والمال العام. تعيش العائلات الثرية التي بينها رابطة سياسية بما فيهم القادة الكرد الكبار في هذه المناطق معزولين عن المدينة. عائلة البارزاني مثلاً تعيش في منطقة كانت سياحية في ما سبق، وكان الدكتاتور العراقي الأسبق صدام حسين يمتلك قصراً فيها. تلك المنطقة معزولة الآن، وليس مسموحاً لأيٍ كان أن يقطن فيها أو يزورها.
تعيش عائلة الطالباني في قرية على قمة هضبة تتبَع لمدينة السليمانية، وأيضاً معزولة عن المدينة. أما الدبلوماسيون والمغتربون الأجانب فيعيشون في مجموعات من المساكن المُسَورة الواقعة في مراكز المدن منفصلين عن أحياء الناس المسحوقين، التي لا يمكن للمرء المشي فيها في الشتاء بسبب الأوحال، ولا يمكن للأطفال النوم فيها في الصيف بسبب الحر وغياب أجهزة التكييف. هذه القرى الكردية التي كانت فيما مضى مصدر افتخار بصفتها موقع الزراعة في عصور ما قبل التاريخ، تعاني حالة انحدار متواصل. ولغياب إمكانية الوصول إلى المنشآت والتجهيزات الموجودة في أحياء الأثرياء يبحث الفقراء عن مستقبل أفضل يعامَلون فيه كأشخاص متساوين مع غيرهم ولديهم الفرصة ليعيشوا حياة كريمة.
أبناء الصفوة لا يذهبون إلى المدارس والجامعات العامة، فقد بَنَتْ النخبة الكردية جامعات بالمال العام والوفرة التي حققتها الصناعات النفطية، وهذه الجامعات أصبحت في ما بعد جامعات خاصة يدير السياسيون بعضاً من أبرزها. جامعة كردستان في اربيل تعود من حيث ملكيتها إلى رئيس إقليم كردستان نيجيرفان البارزاني، وجامعة كردستان الأميركية في دهوك يمتلكها مسرور البارزاني، وجامعة العراق الأميركية في السليمانية أنشأها الرئيس العراقي برهم صالح.
بالرغم من ادعاءات حزب الاتحاد الوطني الكردستاني أنه حزب اشتراكي ديمقراطي، لكنه يخدم مصالح النخبة. فقد بنى كورسات رسول علي قائد المجلس السياسي الأعلى للحزب، أكبر مشفى خاص في كردستان. كان من المقرر في البداية أن يعالج المشفى الأغنياء والفقراء على حد سواء، لكن ما إن افتُتِحَ المشفى حتى تم خصخصته وفقاً لمخططٍ أفاد الحزبين الحاكمين وأفراد عائلاتهم.
في الوقت الحالي المنظومتان السياسية والاقتصادية متناغمتان، وكل منظومة منهما تخدم مصالح الأخرى. المنظومة الاقتصادية خاضعة للمصالح السياسية، والمنظومة السياسية يهيمن عليها الحزب والمنظومة العائلية، وفي ظل ظروف من هذا النوع يستحيل تحقيق أي إصلاح أو نمو. أما انتعاش حكومة إقليم كردستان فهو ليس ناتجاً عن استراتيجية اقتصادية أو عن قيادة متبصرة تمتلك رؤية مستقبلية، وإنما كان يرتكز على تدفق الأموال من بغداد والولايات المتحدة والمجتمع الدولي.
لقد حدث ذلك لسبب واحد بسيط: عاد" الثوريون الأكراد" إلى إقليم كردستان العراق بعد عام 1991، فوطدوا سلطتهم وأصبحوا من أصحاب المليارات، والأدهى من ذلك دمروا المؤسسات التعليمية القليلة التي كانت قائمة في ظل حكم الديكتاتورية السابقة، مؤسسات كانت تخدم الكرد.
أما طموحات القوميين الكرد فلم تكن تتجاوز الرغبة بالتحرر من الديكتاتورية السابقة، دون أن يكون لدى هؤلاء القوميين الذين تسلموا السلطة ما يقدمونه للأمة بخصوص الديمقراطية والحقوق المدنية وحكم القانون سوى النزر اليسير. لقد أنشأ الحزبان الكرديان (الديمقراطي والاتحاد الوطني) بيروقراطية متخلفة وإقطاعية البنية واستبدادية من حيث الممارسة.
إن الإقطاعيين الطغيانيين الذين يفرضون بُنىً أبوية، عاجزون عن بناء الديمقراطيات، فالديمقراطية تحتاج لديمقراطيين يطبقون مبادئ حكم القانون والعدالة وحرية التعبير والانتخابات الحرة النزيهة.
من السهل أن نرى إخفاقات الحكومات القومية في المنطقة، وقد أرانا الربيع العربي كيف طفح الكيل بالشباب في الشرق الأوسط بعد سنوات من الحكم القمعي الاستبدادي. مع ذلك لجأت حكومات إقليم كردستان بالأخص الحزب الديمقراطي الكردستاني، إلى العواطف القومية عوضاً عن معالجة الأزمات الاقتصادية والسياسية المؤثرة والمِلحَّة.
لقد احتكرت عائلتان (البارازاني والطالباني) موارد الإقليم وقمعت المارقين عليها من أجل المحافظة على السلطة. في عام 2019 احتجت مجموعة من مستخدَمي الدولة في محافظة دهوك ونزلوا إلى الشوارع مطالبين بدفع رواتبهم الشهرية في الوقت المحدد لها ودون نقصان، وهو مطلب لم تتم الاستجابة له منذ عام 2014. فاستخدمت قوات الأمن التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني العنف لتفريق المحتجين، وألقي القبض على 80 ناشطاً وصحفياً، وتم سجنهم واتهامهم بالتجسس بسبب "اجتماعهم مع دبلوماسيين أميركيين وألمان في أربيل". تستمر المحاكمات، وبعضٌ من هؤلاء المعتقلين قد تم تجريمهم.
في ظروف من هذا النوع لا عجب أن يقرر الناس الفرار من وطنهم، وهذا ما يفسر لماذا اختار أشخاص مثل أوميد أحمد أن "يشربوا مياه وسخة مدة يومٍ، ويتحملوا العذاب الذي كان يسومهم إياه الحراس، والجوع والبرد في غابات بيلاروسيا"، إنه يريد "الوصول إلى وجهة تُحتَرم فيها حقوق الإنسان ويوجد فيها الأمل".
في مواقع التواصل الاجتماعي كان بعض الكرد في الأيام الأخيرة يقتبسون من الشاعر الراحل شيركو بيكه س الذي ربما هو أحد أعظم الشعراء الأكراد المعاصرين*:
ما الذي أردته من الوطن!
غير رغيف خبز..
وركن آمن..
وجيب غير خال..
وقبضة من شعاع الشمس الدافئة..
وأمطار حب..
ونافذة مطلة على الحرية والعشق!
ماذا كنت أريد أكثر من ذلك؟
لكنه لم يمنحني.
لذا قررت كسر بوابته
في منتصف الليل
خارجاً منه بلا عودة..
*المقطع الشعري منقول عن ترجمة صلاح كرميان لقصيدة "الآن فتاة هي وطني" للشاعر شيركو بيكه س- الحوار المتمدن