كان ذلك في منتصف آذار 2013، بعد شهرين من خروجي من سوريا. إحدى الجمعيات الخيرية الإسلامية المقرّبة من حكومة العدالة والتنمية، أقامت أنشطةً تضامنيةً مع الثورة السورية في ساحة الديموقراطية في قلب غازي عنتاب. تعرّفتُ، في الخيمة المقامة لهذه الغاية، إلى نائب رئيس تلك الجمعية، وتبادلنا أطراف الحديث. درس الرجل في جامعة الأزهر ويتقن العربية. ودودٌ ودمثٌ جداً، تغطي وجهه لحيةٌ مشذّبةٌ بعناية. فكرتان برزتا في حديثه: الأولى عن «الحدود المصطنعة» التي رسمها الاستعمار بين تركيا والبلدان العربية والإسلامية، وكيف تعايشت جميع شعوب الإمبراطورية العثمانية على مدى قرون. فمبدأ وحدتنا -هم ونحن- هو الإسلام أو الأمة الإسلامية كما قال. الاستعمار الخبيث اختلق فكرة القومية وجعلنا نقاتل بعضنا بعضاً.
ليصل الرجل، في النتيجة، إلى أن الثورات العربية هي فرصةٌ لاستعادة وحدة الأمة الإسلامية، وإن لم يقل في دولةٍ واحدة.
فهمت أنه يعكس، إلى هذا الحدّ أو ذاك، الأساس الفكريّ للموقف التركيّ من الثورات العربية، في دوائر الحزب الحاكم ذي الخلفية الإسلامية. وهو، بتبسيطٍ شديد، كالآتي: ثورات الربيع العربيّ ستأتي بالإسلاميين إلى الحكم في بلدانٍ حكمتها، طوال عقود، أنظمةٌ علمانيةٌ قومية، تماماً كحال تركيا قبل صعود حزب العدالة والتنمية. وهو ما سيؤدي إلى استعادة تركيا «الإسلامية» دورها الإمبراطوريّ في محيطها الإقليميّ. تتداخل في هذا الطموح النزعتان الإسلامية والعثمانية، مطعّمتان بقوميةٍ تركيةٍ مختلفةٍ عن قومية أتاتورك العلمانية.
صعد هذا النوع من التفكير في ظلّ ارتفاع منسوب الثقة بالذات لدى عموم الأتراك بعد الإنجازات الاقتصادية الكبيرة لعهد العدالة والتنمية. لا تناقض، من هذا المنظور، بين العلاقات المميزة للحكومة التركية مع النظام السوريّ، بين 2004 -2011، والدعم متعدد المستويات للثورة السورية على الشريك السابق (النظام). فإذا كان الانفتاح التركيّ على النظام قام على أساسٍ اقتصاديّ، وفقاً لفلسفة صفر مشكلات مع دول الجوار، فالانخراط التركيّ في الصراع السوريّ ضد النظام قام على أساس رهانٍ سياسيٍّ كبيرٍ من شأنه استعادة مجال النفوذ التركيّ كما كان عليه في العهد العثمانيّ.
أما الفكرة الثانية فهي موقف الرجل العدائيّ من فتح الله غولن. كان هذا الداعية الإسلاميّ «المعتدل» لغزاً محيّراً بالنسبة لي، فسألت محدّثي عنه على أمل أن ينيرني بمعلوماتٍ لا أعرفها. لكن صاحبي التركيّ الأزهريّ فاجأني بردّة فعله العنيفة. اختفى ذلك المثقف الدمث الودود، وحلّ محله شخصٌ متوترٌ غاضب. لم أكن أعرف وقتها بوجود خلافٍ بين الحكم وغولن، باستثناء تصريح الأخير الشهير تعقيباً على المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل بحقّ نشطاء أتراك في إطار قافلة الحرية (2010)، حين قال إنه كان على منظمي القافلة أن يحصلوا على موافقة الحكومة الإسرائيلية قبل انطلاق رحلتهم، تجنباً لما حدث.
قال محدِّثي، جواباً على سؤالي، غولن هو عميلٌ لإسرائيل وأميركا! فلما أبديت استغرابي من هذا الاتهام العجيب، ذكَرني بما قاله غولن تعليقاً على مجزرة قافلة الحرية، وبمكان إقامته في الولايات المتحدة (بنسلفانيا). وكأن هذا وذاك دليلان قاطعان على عمالة الرجل!
لم ينقض عام 2013 حتى كانت هذه العداوة المستترة بين تيارين في الإسلام التركيّ قد تحولت إلى حربٍ مفتوحة. حرب استئصالٍ من الطرفين، امتدّت وصولاً إلى المحاولة الانقلابية الفاشلة في منتصف تموز الماضي.
خلال السنوات الثلاث الفاصلة بين بداية تلك الحرب ونهايتها تكبّد الطرفان خسائر كبيرة، فشابت الحكم شائبة فساد، وتلقت حركة غولن ضرباتٍ موجعة، شملت مصادره المالية واستثماراته وشبكته الإعلامية ومؤسساته التعليمية. وبات كلّ من يشتبه بولائه للداعية هدفاً للشرطة والقضاء والإعلام.
حجم التصفيات الجارية اليوم، منذ إخماد المحاولة الانقلابية، يشير إلى أن شبكة غولن أوسع بكثيرٍ مما كان يُظن. فإذا أضفتَ إليها شبكته العالمية، كنا أمام ظاهرةٍ مرعبة. فلدى غولن مدارس وجامعات واستثماراتٌ اقتصادية في أكثر من 127 دولة، تطالب أنقرة الآن حكوماتها بحظر تلك الأنشطة، إضافة إلى مطالبتها الإدارة الأميركية بتسليم غولن نفسه.
من المحتمل أن تشكل هذه المطالبة مصدراً لمزيدٍ من الانحدار في العلاقات الأميركية التركية، خاصةً إذا رفضت الإدارة الأميركية تسليمه. ويحفل الإعلام التركيّ باتهاماتٍ للولايات المتحدة نفسها بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية التي تتهم غولن «العميل للمخابرات المركزية» –على وصفها له- بقيادتها من وراء البحار.
إنه أمرٌ محيِّرٌ فعلاً هذا الصراع الدامي بين طرفين لهما المرجعية الفكرية نفسها: الإسلام المعتدل. كما لا يقلّ غولن «إمبرياليةً» عن العدالة والتنمية في سعيه لنشر الثقافة واللغة التركيتين في أنحاء العالم. يبدو منطقياً تحليل روشن جكر، الخبير في شؤون الإسلام السياسيّ التركيّ، حين كتب، منذ 3 سنوات، حول أسباب الصراع بين الطرفين فقال إن الحليفين السابقين كانا قد تقاسما الأدوار، بصورةٍ موضوعية، فكانت السياسة من نصيب العدالة والتنمية، مقابل المجتمع المدنيّ لحركة غولن. أما الصراع فقد حدث، وفقاً لروشن جكر، بسبب تطاول الأوّل على المجتمع المدنيّ وطمع الثاني في السلطة السياسية. فكان الصدام مما لا مفرّ منه.