أعياد كثيرة مرت على السوريين ومعظم العائلات، إن لم تكن كلها، لم تعد تجتمع بعد أن توزعت على أراض كثيرة، ناهيك عن الموت أو الاعتقال اللذين طالا الكثيرين.

بعد غياب عامين قررنا الذهاب لرؤية من تبقى من العائلة. ما نسمعه عن سوء المعاملة من جانب عناصر الحدود والمعابر جعل أحدنا يشبّه رحلة العبور بلحظة الاعتقال، عند مجيء وحوش الأمن في ساعات متأخرة من الليل، أو في الصباح الباكر، وحشرك في السيارة الصغيرة بين اثنين منهم، يجلس كل منهما على جزء من جسمك الذي يبدأ في الشحوب، ويطلقون عليك لقب الطريدة رقم «كذا» في الطريق نحو مراكز التحقيق والموت.

بناء على نصيحة من سبقونا بالذهاب إلى المعبر باكراً في ليلة السفر، كان علينا أن نتحمل ساعات الليل الباردة بانتظار الصباح وبدء الدوام الرسمي للموظفين، عندما ستبدأ رحلة الفرج. ومع مرور الوقت وبزوغ الصباح، وزيادة لهيب الشمس التي تحرق الوجوه والأجساد، وخاصة الأطفال الذين يرفعهم أهاليهم إلى الأعلى خشية التدافع الذي يشابه لحظات القيامة؛ تبيّن أن ما كنا نتحدث فيه الليلة الماضية من صور مرعبة للحظات الاعتقال والتحقيق في مراكز المخابرات لم يكن مبالغة في التعبير عما يحيط بنا.

الآلاف محصورون في رقعة لا تتجاوز مئات الأمتار المربعة، ومن كافة الفئات: رجال ونساء، كبار وصغار، من عمر الأشهر حتى التسعين عاماً، في مكان مليء بالأوساخ وبقايا من سبقنا بالعبور، يحيط بنا بعض رجال الأمن، بلباسهم الأسود وعصيّهم/هراواتهم التي كثيراً ما يستخدمونها لترتيب أو لضب ذلك التزاحم البشري.

الحركة هنا تدافعية. لا تتقدم في الساعة إلا سنتيمترات قليلة أو مجرد زحزحة للأقدام، وسط صيحات من خلفك ومن حولك بالتزام الدور، صيحات تعبّر عن الغضب والاحتجاج على عدم التقدم نحو البوابة. وكثيراً ما يفضي الأمر إلى شجار بين الشباب، غالباً ما يكون عنيفاً وينتهي بتدخل البوليس بضرباتهم المؤلمة التي تشي بشيء من اللؤم والكراهية.

يزداد غضب البشر مع تزايد الحر إلى درجة الحريق، ونتيجة تناقل الأخبار الواردة من الواقفين في الصفوف الأولى عن عبور بعض الشباب والعائلات بطرق ملتوية، ويتزايد هذا الكلام عندما تعرف وتسمع أن عملية الإدخال إلى البوابة تتم بالرشاوى.

بدا لي أن القصد من كل ذلك واضح. هناك نية لإهانة السوريين بتجميعهم ضمن أقفاص تشبه أقفاص الدجاج بحيث تسهل محاصرتهم والتحكم في حركاتهم، وخاصة مع ذلك الجو الخانق الذي يشوي أجساد الأطفال قبل الكبار.

في تلك اللحظة ناداني أحد من رافقنا في الرحلة حتى الآن، قبل أن يقرر الانسحاب من بين ذلك الحشد والعودة، وقال لي: هل كنا محقين في حديثنا عن الطريدة رقم كذا وتحولنا كلنا إلى طرائد ولكن دون أرقام؟

مع اقتراب الدوام من نهايته، وبعد أن أدخلوا ما يكفي من الناس بوسائلهم الخاصة، قرروا إنهاء المهزلة التي صنعوها وإدخال كل الحشود مباشرة. لم يستغرق الأمر أكثر من نصف ساعة فقط، هو الزمن الكافي للتخلص من كل ذلك الزحام.

تأتي بعدئذ إجراءات التدقيق الإلكتروني، وهو وصف أكبر بكثير مما جرى. اصطفافات جديدة وهراوات أيضاً. لتنتقل من مكان مسقوف يشبه البيوت البلاستيكية ولكن بغطاء قماشي، حتى تصل أخيراً إلى غرفة تحصل فيها على بطاقة مؤلفة من جزئين يحملان الرقم نفسه، تثبت بطاقة التعريف المؤقتة «كيمليك» على أحدهما، ليبقى أمامك المكتب الأخير الذي يمهر الختم الخاص بالبوابة-المعبر، وتنتهي الرحلة لتصل إلى الطرف الذي تشتاق إليه.

هناك ترى وتسمع الناس يتوجهون إلى أماكن مختلفة من سورية؛ محررة أو خاضعة لقوات درع الفرات أو لسيطرة النظام. أما في مناطق «قسد» فتلك قصة أخرى، إذ يحتاج الحصول على إذن للدخول إلى الكثير من الوقت والتدقيق حتى إن كنت من أهالي القرية نفسها.

كانت الشتائم واللعنات أقل هنا في الوطن، لكن السوريين لم يحرموا منها وكأنها ظل مرافق لمأساتهم، أو عقاب على مطالبتهم بحقوقهم ورغبتهم في التحرر من كل الطغاة صغاراً وكباراً.

طالما بقينا موزعين، طواعية أو عنوة، بين ولاءات مختلفة غير الولاء للوطن، تنخر فينا الفوضى والولاء للآخرين، أياً كانوا، ستبقى اللعنة تلاحقنا في منافينا وفي ما تبقى من وطن!