لا حياة لمن تنادي؟

لافتة من حلب ترحب بالنّازحين اللبنانيين خلال حرب تموز 2006
صاحب المطعم المذكور في اللافتة، واحدٌ من شبيحة حلب

منذ البداية، لم تتوقف المناشدات السورية للإخوة العرب والمسلمين كي يساعدوهم في محنتهم، على كل المستويات. وكما هو معروف، لم تكافأ هذه النداءات بما أمل السوريون، بل أخذت طابعاً فردياً من قبل بعض المتحمّسين، أو دعماً سياسياً وعسكرياً محدوداً ومشروطاً في أحيانٍ كثيرة، قامت به بعض الحكومات، كلٌّ بحسب سياساته. وهذا ما زاد من بلل طين الخيبة العامة، التي لم يكن ينقصها التدخل الإرهابيّ المباشر للميليشيات اللبنانية والعراقية المساندة للفاشيّة الأسدية، ليضاف إلى الشعور بالغدر والخيانة من قبل "الإخوة" العرب في مصيبة اللجوء والتشرّد التي لحقت بالملايين.

وحين يدور الحديث عن تلك المشاعر يستدلّ الكثيرون بمثالٍ متعارفٍ عليه عن استضافة السوريين لإخوانهم وقت الأزمات، كما فعلوا مع العراقيين في 2003 وما تلاها، واللبنانيين خلال حرب تموز 2006. وفي هذا شيءٌ من الصدق، إذ يذكر الجميع الحماسة الشعبية ضد التدخل الأمريكي في العراق، والدعم الشديد الذي حصل عليه حسن نصر الله في حربه مع إسرائيل، وكمية الشتائم التي وجّهت لجماعة 14 آذار اللبنانية ورموزها بعد اغتيال الحريري وتداعيات تلك القضية. لكن، بالمقابل، لم يكن كلّ ذلك إلا بتوجيهٍ مباشرٍ وغير مباشرٍ من النظام البشاري، الذي عمّم مواقفه من هاتين المسألتين ـ وسواهما بالطبع ـ على مواطنيه، واستغلهما لكسب المزيد من الشعبية ودغدغة عواطف الجماهير. ولم يُسمح لهذا التعاطف أن يتحقق لولا المباركة الرسمية والمخابراتية، وإلا لكانت السيناريوهات شبيهةً بما حلّ ببعض الشباب الدين تجرأوا وأعلنوا وقوفهم مع صدام حسين في حرب 1991، والذين دفعوا ثمن حماسهم هذا سنواتٍ في المعتقلات، أو حجز مقعدٍ دائمٍ في برنامج الضيافة الأمنية وفناجين قهوتها. وبناءً على هذا، يصعب تصور السوريين بهذا الكرم والتفاعل الجدّيّين لو أن رأي النظام كان حيادياً ـ إن لم يكن سلبياً ـ تجاه الحدثين العراقي واللبناني، ناهيك عن القضية الفلسطينية التي شبعت ابتذالاً ومتاجرة. وهذا ما ينطبق أيضاً على المنقذين المفترضين الآن، الذين ما زال كثيرٌ منهم في طور تعلم التهجئة، فلماذا كل هذا الإصرار على لعب دور ضحية غدر الأشقاء ونكران الجميل؟
لافتة

وهنا يأتي الجواب على شكل صورةٍ لا نحب أن نعرفها عن أنفسنا. فانعدام القدرة على الفعل، والمراهنة دائماً على رصيدٍ وهميٍّ من المراجل، لا يكفلان انتصارنا، فنتجّه إلى الإعلاء من الفروسية المحلية المطعونة من المقرّبين، وما يصاحبه من رغبةٍ عدميةٍ بالانتقام، بالإضافة إلى فقدان الأمل من المدد البشريّ، في مجتمعاتٍ حكمتها معايير النخوة ودقّ الصدر. لكن الأكثر إثارةً للتأمل هو الاعتراف الضمني بتطابق مواقف النظام ما قبل الثورة مع المزاج الثوري العام بعدها، وكأننا لم نعِ بعد أن كلّ ما كان يفعله النظام هو تلقيننا ما يريد، دون أن نبدي أي بادرة احتجاجٍ أو موقفٍ معاكس. وهذا ما تكشّف جزءٌ من حقيقته في قضايا كثيرة، كالممانعة والمقاومة اللتين انزاح الستار عن أكاذيبهما، لكن لم يسلط الضوء بعد على جميع الأمراض المختبئة فينا، لنكويها، أملاً بالنجاة.

الآن، يترامى السوريون على شطآن أوروبا وفي مطاراتها يطلبون اللجوء ويتعرفون إلى القوانين، ويشتمون في الوقت عينه الغرب اللا إنساني على تقصيره في حق القضية، معتقدين ضمنياً أن تركهم لمحور الممانعة وتأخرهم في اكتشاف مشاكلهم هو شيءٌ يستحق المكافأة، ويتطلب توريط بلدانٍ في مأساتنا التي صنعناها وقدّسناها ونريد اليوم من يخلصنا منها. مع دوام الاعتقاد أن تلك البلدان هي وحوشٌ طامعةٌ بجاذبيتنا وازدهارنا وثرواتنا، في تكرارٍ لرواية النظام الأسدي وأشباهه، الذين حكمونا بتلك المقولات. ومع تجاهل أن هناك قوانيناً وحكوماتٍ متغيرة هي التي تحكم الدنيا، لا الأمزجة والمؤامرات.
لا أحد يجـــــبر الأوروبيــين على اسـتقبال وتوطين اللاجئـــين السوريين ومساعدتهم الآن إلا أخلاق القانون، ولتذهب النخوة الزائفة إلى المزبلة.